هل أن الشباب صاحب مشروع مجتمعي؟

 

1 ـ الشباب في "الثورة" وشبكات التواصل الاجتماعي والتجديد الأيديولوجي

كثر الحديث منذ 14 جانفي عن الاستثناء التونسي الذي افتتح عهد "الثورات من النمط الجديد" في القرن الواحد والعشرين، اعتبارا للدور الذي لعبه الإعلام وبصورة خاصة شبكات التواصل الاجتماعي في عملية تحققها، لأنه توصّل في التحريض على الثورة وتعميم شعاراتها والتعبئة لها إلى المرور من العالم الافتراضي للعالم الواقعي أي "لإنجازها فعليا". وهو موضوع كنّا تعرّضنا له في مناسبات عديدة سابقة. وما يهمنا اليوم في التذكير به هو مكانة الشباب في هذه "الثورة" بحيث رأى، جلّ الإعلاميين والسياسيين والنخب، أن "الشباب هو الذي قام بها بمعزل عن الأحزاب السياسية التي أصابتها البهتة عند حدوثها" لسببين، الأول هو أن الشباب أحسن استغلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تتجاوز إدراك الكبار والثاني يتمثل في أن الشباب تجاوز النمطية والقوالب الجامدة والحدود الأيديولوجية مولدا أفكارا وشعارات وأساليب جديدة. وقد امتد هذا التنويه إلى التحرّكات الأخيرة التي أكد فيها أنه تجاوز الكبار وتركهم غارقين في التغني بـ"الزمن الجميل". وعليه سأتناول نقاش هذا الموضوع حسب المحاور التالية:

أولا، صحيح أن شبكات التواصل الاجتماعي تعمم الشعارات وطنيا وإقليميا وعالميا وتكوّن رأي عام، حول قضية ما، بسرعة فائقة، اعتبارا وأن التفاعل بين المشبكين حينيا. لكن هذه الشعرات والدعوات لا يمكن لها أن تمرّ إلى الواقع إلا إذا وجدت القوة الحاضنة، وحينما تكون الظروف ملائمة للتغيير المنشود، سواء إن كان مطلبا محددا أو ثورة. ممّا يعني أن الدعوات تظل عالقة في الشبكات والرأي العام الذي تصنعه يبقى هو الآخر منحسرا في التفاعلات المباشرة، أذا لم تراع وضع الحاكمين والمحكومين وإذا لم يوجد مشروعا بديلا لما هو سائد وإذا لم توجد القوة السياسية المؤتمنة عليه. وفي ما عدى ذلك يصبح ما يجري في شبكات التواصل الاجتماعي لا يتعدى مستوى التحريض المباشر يمكن له أن يؤثر في القرار السياسي وحتى أن يحدث اضطرابا كبيرا في مستوى السلطة وقد يؤدي إلى تغيير الحاكمين لكنه يترك للطبقات السائدة وللقوى "البرانية" مجالا واسعا للمناورة بتولي "كفاءات" و"ساسة" بدون خبرة يطوعونهم كما طاب لهم لخدمة مصالحهم.

أمّا القول بأن الشباب قد تجاوز النمطية والجمود العقائدي والحدود الأيديولوجية فهو قول غير صائب، لأن الجديد من الأفكار هو صنف أيديولوجي هدفه جعل الشباب الرافض لما هو سائد يبدو وكأنها ماضوي متعلق بمثل ومشروع طوباوي غير قبل للتحقيق وقد فشل أينما حلّ عالميا، وفي النهاية جعله يفتقد لهوية إنسانية يتعلق بها قائمة على قيم الحرية والعدل وإنسانية الإنسان، القيم والمشروع الذي يمثل قاطرة التحرر من الاستغلال والاضطهاد. ممّا يعني ربط الشباب المتعلّق بالعدل والحرية والقيم الإنسانية والطبقات الشعبية بعجلة الطبقات السائدة وأيديولوجيتها ونمط مجتمعها. وهي دعوات لا تختلف عن أطروحة فوكوياما "نهاية التاريخ" و"نهاية الأيديولوجيا" التي ظهرت في مرحلة صعود العولمة النيوليبرالية والتي راجعها صاحبها في المدّة الأخيرة. إن الشباب وكذلك الشأن بالنسبة للطبقات الشعبية كما المجتمع بأسره مخترق بالأيدولوجيا بمختلف مرجعياتها النظرية والفكرية، وهو اختراق يجعل من الانحياز إلى هذه المرجعية أو تلك يفرض عليه نوعا من "العقائدية" وبالتالي نوعا من "الجمود" و"نفي الآخر"، تلك هي الأيديولوجيا في معناها العقائدي السلبي. ودون أدنى شك فإن أصحاب هذه الآراء يتجاهلون الموجة التي أخذت الشباب المسلم إلى السلفية الجهادية، ألا تعتبر أطروحاتها أيديولوجيا؟ وهو وضع يؤكد أن الأيديولوجيا ستظل قائمة طالما أن المصالح الجوهرية للطبقات الحاكمة، من جهة، وللطبقات المحكومة، من جهة ثانية. لذلك ومهما بلغت سطوة الأيديولوجيا السائدة فإن نقيضها يأخذ مكانه في المجتمع بمختلف فئاته، بما فيها الشباب، ويكون التشيع شائعا داخله بالجديد والقديم، والجديد في جميع الأحوال يكون في قطيعة وتواصل مع القديم، قطيعة مع جوانبه التي أفلت وتواصل مع جوانبه التي حملت روح العصر. ممّا يعني أن القطيعة القطعية لا تحدث في إيديولوجيا محددة إلا إذا حصل عبور إلى أيديولوجيا أخرى، كثيرا ما يعبّر عنه بخيانة طبقته. ونخلص إلى القول بأن كل جيل لطبقة بعينها، من شبابه إلى كهولته وشيخوخته، ينجز ما هو في متناوله إنجازه في اتجاه التقدم بطبقته ومجتمعه وقد يشهد ارتدادا على ما تحقق من تقدم وقد يأخذ الذي يليه المشعل من يده ليواصل حركة التاريخ، لأن التقدّ والتقهقر له صلة متينة بالمسار الذي يأخذه الصراع الطبقي بمختلف مراحله في المجتمع.

2 ـ الشباب التونسي ليس استثناء

كان الشباب دائما لهب الثورات وكل التغيّرات العميقة في الدولة والمجتمع، سواء كانت وطنية أم سياسية اجتماعية، وتكفي الإشارة إلى أن جلّ قادة حركة التحرر الوطني في تونس وفي العالم لم يتجاوز سنّهم عموما الأربعين سنة وجزء منهم لم يتجاوز عقده الثالث. وزيادة على ذلك فإن جلّ المشاركين في التحركات وحاملي السّلاح هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الـ18 والـ30 سنة. وهذا الاندفاع الذي عليه الشباب في الرفض والاحتجاج والثورة على ما هو سائد يعود توقه للتغيير ولصنع عالم مثالي يحصل فيه على اعتراف بقدراته ويلبي ما يختلج في ذاته. وهي سمة خاصة بالشباب في جميع البلدان وليس خاصية تونسية. وفي هذا الصدد نذكّر فقط بثورة الشباب الفرنسي والتونسي وفي العديد من بقاع العالم في 1968. وقد نجحت هذه الثورات في بعض بلدان العالم، وبصورة خاصة في البلدان المركزية، في حمل الحكام على إدخال العديد من التغييرات على أساليب حكمهم وإضفاء مزيد من الانفتاح والتحرر في المجتمع إلى القيام بإصلاحات في التعليم والثقافة والإعلام، بينما فشلت في جلّ البلدان الطرفية لأن الحكام واجهوها بالقمع المبرّح اعتبارا وأن النظم القائمين عليها دكتاتورية واستبدادية.

لقد حصل ذلك في الصنف الأول لأن النظم القائمة تفاعلت مع نبض الشارع وأصغت لصوت الشباب ولآراء الأحزاب السياسية وللمجتمع المدني وأخذت بقراءات المفكرين ومقترحاتهم، هذا من ناحية، أمّا من ناحية أخرى فقد ارتبطت حركة الشباب في 68 بعمقها الشعبي وبالأحزاب السياسية التقدمية وبالحركات النقابية والثقافية ووجدت مساندة واسعة في أوساط المثقفين ورجال الإعلام، ممّا تمثل تعبيرا عميقا عن حاجة المجتمع إلى تغييرات عميقة كان في حاجة إليها لتحقيق توازنه ومواصلة تقدمه.

في حين أنها فشلت في الصنف الثاني من البلدان لأن الحكام لا يسمعون سوى أصواتهم وصداها عند الموالين لهم ولأن الحركة كانت منعزلة عن الحركة الاجتماعية بمختلف مكوناتها، رغم أنها تعبّر عن القلق الشعبي وعن التعطل في التواصل بين الحاكم والمحكوم، لذلك تيسّر على الماسكين بالسلطة مواجهتها بالقمع والإيقافات والمحاكمات والسجن وبمزيد من التصلب والتشدد في أسلوب الحكم.

إن نزول جزء من الشباب التونسي إلى الشارع باستمرار وبسهولة يعود إلى أمرين:

ـ الأول يتمثل في تدهور أوضاعه وانسداد الأفق أمامه وحالة اليأس التي تملكته في إمكانية تغييرها إلى ما هو أفضل في ظل السياسة التي تتبناها الأحزاب الحاكمة والخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تدافع عنها والتي تنفذها حكوماتها المتعاقبة، خاصة وأنها لم تفعل شيئا سوى مزيد الإمعان في إغراقه ودفعه إلى اليأس والهامشية لإجباره على الاستسلام لمشيئتها وتطويعه لخدمتها ولتجعل منه أو، على الأقل، لقطاعات واسعة منه هراوة تهوي بها على الشعب لإسكاته وفرض الخنوع والطاعة عليه، كي يتسنى لها تنفيذ مشروعها النيوليبرالي والإسلاموي دون عناء.

ـ والثاني يتمثل في توفر فضاءات من الحرية أجبرت النظم القائمة على تركها، ولو إلى حين، استغلها الشباب المحتج ليعبّر عن رفضه للسياسات والخيارات المتبعة وللتعدي على الحريات وتنديده بالقمع المسلط على المتظاهرين وبالإيقافات التي تعرّض لها عدد منهم وبالأحكام الجائرة في حق البعض الآخر.

والجدير بالذكر أن درجة الاحتقان المدعومة بتعبئة إيديولوجية في سياق مسار ثوري سرعان ما تخرج عن إطارها لتأخذ أشكالا قد تكون عنيفة، وغالبا ما تكون غير معد لها سلفا، عندما تصطدم بقوّة أمنية مضادة تمنعها من التعبير عمّا يغلي به قدرها. ومن الطبيعي أن تستغلّ السلطة ذلك لتحاول الدفع بأجهزتها الأمنية لاستعادة الفضاءات التي فقدت السيطرة عليها، وهكذا دواليك حتى تعود بالمجتمع إلى مربع الدكتاتورية والاستبداد.

وخلاصة القول فإن الشباب التونسي في مثل الظروف التي يمرّ بها لا تجعل منه استثناء بل هو فعل طبيعي لفئة رافضة الواقع المعاش ومتطلعة لغد أفضل.

3 ـ الشباب ليس فئة مستقرة ولا هو صاحب مصالح موحدة

إن الشباب فئة اجتماعية مرتبطة بمرحلة عمرية تمتد من سن المسؤولية المدنية، 16 سنة، إلى الـ30 عموما، ينحدرون من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية. وفي مثل هذا العمر فإن الشاب وبصورة خاصة في مراحله الأولى مازال بصدد بناء ذاته ورسم ملامح شخصيته وتكوينته النفسية وتأصيل انتمائه الاجتماعي. لذلك فإن هذه الفئة من بينها من أصل اجتماعي بورجوازي وبورجوازي صغير وعمالي وفلاحي وعاطلين عن العمل، والشاب تلميذ وطالب وفنان ومثقف ونقابي وسياسي وناشط في المجتمع المدني. وتميل هذه الفئة عموما في مرحلة معيّنة إلى الرفض والثورة على كل ما هو سائد مندفعة إلى الجديد، إلى ما يتلاءم مع روحها وتطلعاتها، بما ينسجم مع الأحلام التي تنسجها في خلدها والقيم التي تتعلّق بها وتبدو لها منذ الوهلة الأولى كفيلة بتغيير العالم دفعة واحدة وصياغته من جديد حسبما تراه متسقا مع الصورة التي تتجلى في ذهنها بالصيغ التي تأمل بأن تكون الأفضل من السابق والقائم واللاحق على أيدي غيرها. وتبقى على هذه الحالة إلى أن تدخل طور الاستقرار، حينها تتمكن من أن يكون لها خيارات محددة فتكفّ عن الرفض المطلق لتدخل طور الانتماء الأيديولوجي والسياسي والمدني، وقد تظل "مستقلة" طوال حياتها. وباختصار شديد فإن وجود هذه الفئة وطبيعتها محدودان في الزمن ويتغيران باستمرار لتتوزع بعد ذلك على مختلف الطبقات الاجتماعية. ممّا يعني أنها فئة غير مستقرة وليست صاحبة مصالح موحّدة، بل لكل صنف من بينها مصالحه، ومن ثمّت لا يمكن لها أن تكون صاحبة مشروع موحّد بل لكل صنف من بينها مشروعه الخاص الذي يدافع عن مصالح الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.

وبما أن الشباب، كما سبق وأن بيّنا ليس صاحب مصالح موحّدة ولا صاحب مشروع مجتمعي موحّد، لذلك فهو محرّكا للثورة والثورة المضادة في آن واحد. ويكفي أن ننشط ذاكرتنا لكي نتأكد بأن الشباب كان دائما من بين طلائع الفاشية والنازية واليوم من جند السلفية الجهادية، وكان أيضا من بين جنود الزحف الأحمر للثورة الصينية والثورة الثقافية والثورة البلشفية ومن بين الطلائع الأممية التي وقفت إلى جانب القوى الديمقراطية والتقدمية في الحرب ضد الفرنكية، وهذا الصنف من الشباب هو اليوم من بين القوى المنخرطة ضمن اليسار الاجتماعي والثقافي والاشتراكي.

لذلك فإن الدعوات المتكررة الموجهة للكبار كي يتركوا أماكنهم للشباب من أجل أن يتحمّل مسؤولية إدارة الشأن العام، وكأنّها تعتقد أنه صاحب مشروع يسمح له بقيادة المجتمع لتحقيق ثورته. وانسجاما مع الحجج سابقة الذكر فإن هذه الدعوات خاطئة تمام الخطئ، لأنها أيضا تجعل الرأي العام يعتقد بأن عدم الخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية والأخلاقية التي تردت فيها بلادنا تعود إلى الكبار الذين يتولون إدارة الشأن العام وليست إلى سياسات وخيارات الأحزاب الحاكمة الفائزة في الانتخابات وتنفذها حكوماتها، طوال العشرية المنقضية، هذا دون الحديث عن مسؤولية الحزب الحاكم والنظم المتعاقبة. كما أنها تحوّل التناقض الرئيسي في المجتمع من تناقض بين المصالح الجوهرية القائمة بين من يملكون وسائل الإنتاج ويحتكرون الثروة وبين من لا يملكون شيئا غير قوّة عملهم التي يعرضونها للبيع كي يتمكنون من العيش ويحافظون على نسلهم، ومن لهم بعض الأملاك الخاصة الكافية لعيشهم وإعالة عوائلهم، إلى تناقض بين الشباب والكبار، وبصيغة أخرى من صراع طبقي إلى صراع بين الأجيال يدفع بالمجتمع إلى الفوضى وإلى التطاحن بين الصغار والكبار في كل فئة ومجموعة بشرية، خارج نطاق المصالح والمشاريع والاستغلال والاضطهاد والحاكم والمحكوم، كأن يكون الشاب الفلسطيني في نفس الخندق مع الشاب الصهيوني ضد ياسر عرفات وشارون، لمّا كانا على قيد الحياة، في الخندق المقابل.

فهل يعقل أن يحدث مثل هذا التخندق في فلسطين؟ لا أظن ذلك. وقس على ذلك في جميع الأحوال والمجتمعات والمراحل والحقب التاريخية. ممّا يعني أن صراع الأجيال لا يجعل المجتمعات تتجاوز تناقضاتها بل تظل قائمة طالما أن الجنس البشري مازال قيد الوجود. وقد يحتدم هذا الصراع ويتحوّل إلى اقتتال لا نهاية له. وقد يفرض جزء من المجتمع من بين الشباب على الكبار، الخضوع وفرض الطاعة عليهم، فتشهد المجتمعات حالة من السلم الزائفة، سرعان ما تنقلب إلى الضدّ حالما تتغير موازين القوى لمّا تنتقل الشرائح الشابة إلى الكهولة.

ذكّر فإن الذكرى...

إن الحديث على أن الشباب هو الذي قام بالثورة، في حين كانت الأحزاب السياسية "تغط" في النّوم باطل لأن تلك التي كانت معارضة من خارج المنظومة ليس لها وجودا قانونيا بل كانت عموما متخفية في تنظيمات سرية وفي الجمعيات والمنظمات ومنها جمعية نوادي السينما والسينمائيين الهواة والكشافة والاتحاد العام لطلبة تونس والاتحاد العام التونسي للشغل، هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى والتي لها في اعتقادي أهمّية كبرى وتتعلق بالأوضاع العامة التي كانت عليها البلاد والتي عليها نظام الحكم وبن علي على وجه التحديد. فقد كان الجميع على يقين من أن أيام بن علي والتجمع في الحكم أصبحت معدودة، لكن ما من أحد كان يتوقع اللحظة ذاتها. وحسب العديد من المصادر تمكنت المخابرات المركزية الأمريكية من جعل مثيلتها الفرنسية خارج اللعبة، فما بالكم بالأحزاب التي شهدت عديد الأحداث والتحركات الشعبية التي فاقت تلك التي عرفتها سيدي بوزيد والتي كانت بمثابة الشرارة التي ألهبت "ثورة". وبالرغم من ذلك فمنذ أن انطلقت التحركات الاحتجاجية في 17 ديسمبر 2010، كان نشطاء الأحزاب السياسية التي كانت تنشط في السّرية في الميدان، تحت غطاء الاتحاد العام التونسي للشغل وكان النقابيون والمحامون والنخب بصورة عامة، هم الذين تجمعوا أمام مقرّ الولاية وجعلوا من مقرّ الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد نقطة انطلاق المسيرات التي كانوا يدعون لها ويؤطرونها ويعدون شعاراتها. وتدريجيا تعاظم الاحتجاج وتحوّل إلى حركة بدأت تأخذ مكانها في مختلف الجهات. وكانت دور الاتحاد تتحوّل إلى مراكز لتأطير المحتجين، كل الشرائح الاجتماعية كانت حاظرة بكثافة وكانت الشباب منخرطا في الحركة ولم تنفصل عنها إلا بعض شرائحه في المواجهات الليلية، التي اختلط فيها الحابل بالنابل. والجدير بالتنويه أن جلّ النقابيين الذين نظموا الحراك وقادوه كانوا في الغالب من أبناء اليسار بمختلف مكوناته ومن غير المنتظمين.

ولا بدّ من التذكير بأن الاتحاد العام التونسي للشغل كان الداعم الرئيسي لاعتصام قصبة1 و2 وكان اليد في اليد في ذلك مع مجلس حماية الثورة. ولا بدّ من التذكير أيضا بأن مجلس حماية الثورة كان يضم 28 حزبا وجمعية بما في ذلك اتحاد الشغل وحركة النهضة والأحزاب اليسارية باستثناء الحزب الاشتراكي الذي لم يشارك في هذا المجلس. بحيث لم يكن الشباب وحده في "الثورة" ولا قائدها، بل كان محرّكها بتنسيق أعماله والتحريض عليها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تماما كما كان الشأن يوم 14 جانفي في شارع بورقيبة.

لقد بدا فعل الشباب وكأنه وحده الذي غيّر الأوضاع بل ارتباطه بالعمق الشعبي، الحركة النقابية والسياسية والشعبية، الذي كانت تفتقده في حركتها السابقة، هو الذي أعطاها القدرة على التغيير والانتقال الديمقراطي. وكانت عديد الأوساط الداخلية والخارجية التي لها مصلحة في التغيير، تدخلت من فوق لتسرع حدوث رحيل بن علي. كنت في 14 جانفي في شارع بورقيبة رأيت النساء والرجال، الشيب والشباب، كل الأحزاب السياسية المعارضة في عهد بن علي ورأيت أيضا جزءا من التجمعيين ومن الأحزاب القانونية وقتذاك، رأيت الراحلة ميّة الجريبي محاطة برفاقها تخطب في الناس. ورأيت الشباب اليساري من أبناء الاتحاد العام لطلبة تونس يحرض الناس ويجلب الماء ويتسلق شبابيك وزارة الداخلية، ساعيا لاقتحامها. ورأيت أيضا أحذية النايك واللحيّ واللباس الأفغاني تقتحم شارع بورقيبة متربصة ومتحفزة وكأنها متأهبة للانقضاض على من يعترض سبيلها. ومع مرور الأيام أصبحت مكونة من مكونات مشهد الشارع الرمز، بحيث لا يمكن أن أمر بحلقة نقاش دون أن أجد "جماعات" تتصدر النقاش بالدعوة لتطبيق الشريعة وللدولة الإسلامية وتكفير كلّ من هبّ ودبّ وتصب جام غضبها وحقدها على اليسار العلماني الملحد.

وفي شارع بورقيبة بالذات في الأغورا المفتوحة رأيت كيف تنقسم الفئة الشبابية إلى ملل ونحل، اشتراكية، شيوعية، قومية، إسلامية، بعثيّة وغيرها. ممّا يعني أننا لسنا أمام فئة موحدة صاحبة مشروع موحّد بل تتجه إلى الانقسام دائما حسب المشاريع الموضوعة للعرض. وممّا لا شك فيه فإن الانقسامات تشقّ جميع الطبقات والفئات الاجتماعية، لكن بما أن خياراتها ومشاريعها تتوافق ومصالحها فإن انقساماتها ثانوية وعرضية وإن الذي يحدث لدى الفئة الشبابية فهي انقسامات أساسية وحاسمة باعتبارها تدفع بكل جزء إلى الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي تستعد لاستقباله.

كان يجري في شارع بورقيبة صراع بين مشروعين للمجتمع والدولة والمجتمع، مشروع الإسلام السياسي الذي كان يهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة ومشروع انتقال الجمهورية من الديكتاتورية إلى الديمقراطية الذي يتبناه ويدافع عنه الجمهوريون بشقيهم الليبرالي الديمقراطي واليساري الاجتماعي، وهو صراع شقّ الشباب بصورة خاصة ليدفع به إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الحاضنة لكل مجموعة. وكان شارع بورقيبة شاهدا أيضا على فوز الإسلام السياسي بقصب السباق، فقد تسلل لأجهزة الدولة ليحكم قبضته على مفاصل الدولة ثمّ ليتحكم فيها، بينما ضيّع الجمهوريون كل الفرص لتكوين قوّة قادرة على تعديل الميزان السياسي والدفاع عن الجمهورية ومكاسبها وعن مصالح الشعب وعن الحريات والديمقراطية والسيادة الوطنية وعدم الانخراط في سياسة المحاور.

لذلك يكون من غير الموضوعية والعدل أن يتمّ فسخ القوى السياسية والاجتماعية من الحراك الثوري لفائدة فئة أخرى. كما أنه ليس من المنطقي الحكم بالفشل والعجز على قوى عديدة اجتماعية وسياسية ومدنية كانت قد ساهمت في النضال ضد الدكتاتورية وفي الدفاع عن الديمقراطية وعن الجمهورية ومكاسبها وعن المصالح الجوهرية للشعب والوطن، بما فيها اليسار، على ضعف أدائها في لحظة تاريخية محددة حتى وإن كانت مفصلية، لأنها خسرت مواقعها في معركة بعينها ولم تخسر الحرب التي مازالت رحاها تدور على المسرح السياسي. وبإمكانها تجاوز نقاط وهنها لتعود إلى أخذ مواقعها التي فقدت وبذلك تصبح قوة جاذبة لمختلف الطبقات والفئات الاجتماعية وبصورة خاصة للشباب الذي تفتح أمامه أبواب الأمل وتعيد التفاؤل إلى روحه فينخرط في حركتها بأعداد كبيرة تحوّلها إلى قوّة جارفة لا تقهر، قادرة على الانتصار ومؤتمنة على مصالح البلاد والعباد.

محمد الكيلاني

8 فيفري 2021



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه