الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي
 وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة
بقلم: محمد الكيلاني
تونس في 20 أكتوبر 2019
تقديم:
أسفرت الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية على فوز قيس سعيد بالمرتبة الأولى بنسبة 18.4% ونبيل القروي بالمرتبة الثانية بنسبة 15.58% على الرغم من أنه كان قابعا في السجن ولم يقم بحملته الانتخابية وتلاهما في المرتبة الثالثة عبد الفتاح مورو بـ12.88% وفي المرتبة الخامسة عبد الكريم الزبيدي بـ10.73% وفي المرتبة السادسة يوسف الشاهد بـ7.38% بينما كان مرشحو بعض مكونات اليسار في آخر الترتيب بـ0.81% لمنجي الرحوي و0.69% لحمه الهمامي و0.17% لعبيد البريكي، بحيث يكون حاصل بعض مكونات اليسار في الدور الأول للانتخابات الرئاسية 1.67%.
وأسفرت الانتخابات التشريعية على فوز حركة النهضة بـ52 مقعد وقلب تونس بـ38 مقعد والتيار الديمقراطي بـ22 مقعد وائتلاف الكرامة بـ21 مقعد والحزب الدستوري الحر بـ17 مقعد وحركة الشعب بـ16 مقعد وتحيا تونس بـ13 مقعد ومشروع تونس وحزب الرحمة والبديل التونسي والاتحاد الشعبي الجمهوري بـ3 مقاعد لكل واحد منها وأمل وعمل وآفاق بمقعدين لكل منهما أمّا بقية الأحزاب والقائمات المستقلة فقد كان نصيبها مقعد واحد لكل منها، وخرج اليسار في عمومه من هذه المعركة الانتخابية بمقعد وحيد لكل من منجي الرحوي (حزب الجبهة الشعبية) وعدنان الحاجي (حركة إلى الأمام). والجدير بالملاحظة أن 54 مقعد في المجلس كانت بعدد الأصوات الكاملة موزعة على النحو التالي 29 مقعد لحركة النهضة و18 لقلب تونس و3 مقاعد للحزب الدستوري الحر و2 للتيار الديمقراطي ومقعد لكل من حركة الشعب وائتلاف الكرامة و163 مقعد بأكبر البقايا. وهكذا تكون الحركة الإسلامية قد حصلت على حوالي الـ80 مقعدا، أمّا القوى الجمهورية بمختلف تعبيراتها فقد جمّعت حوالي الـ80 مقعدا مع فارق جوهري وهو أن الخلافات الموجودة بين الأطراف المتقابلة كبيرة زيادة على الرهانات التي قد تدفع ببعض المكونات على التحالف مع حركة النهضة لتكوين الحكومة والتمكن من رئاسة مجلس النواب.  
وباحت الدورة الثانية أوليا بأسرارها بحيث حصل قيس سعيد على 72.71% من أصوات الناخبين بينما تمكّن نبيل القروي من 27.29%.
تعددت ردود الفعل تجاه هذه النتائج إذ اعتبر البعض التصويت في الدورة الأولى للرئاسية عقابيا للأحزاب الماسكة بالسلطة واعتبرها البعض الآخر ثورة ثانية "ثورة الصندوق" وذهب رأي ثالث إلى اعتبارها انتصارا للذين ترشحوا "من خارج السيستام".
 ومحاولة منّا للمسك بمجريات الانتخابات والنتائج التي أسفرت عنها رأينا أنه من الضروري الكشف عن الأسباب الحقيقية التي وقفت وراءها كي نتمكن من تحسس معالم طريق التجاوز.  
1 ـ رجّات ما قبل الزلزال
أ ـ الرجّة الأولى
كانت أول رجّة هزّت معنويات الناخبين الحداثيين المتشبثين بالجمهورية ومكاسبها وزعزعت ثقتهم في السياسيين وفي الأحزاب التي طغت على المشهد السياسي، هي تلك التي حدثت جراء "التوافق" الذي حصل بين "النداء" و"النهضة" وبين "الشيخين" بدعوى القبول بما أفرزه الصندوق، أي أن الشعب الناخب الذي منح ثقته لحزب النداء كي يكون الحزب الأول في الانتخابات وحركة النهضة الحزب الثاني، هو الذي سمح لهما بتشكيل أغلبية مريحة في المجلس النيابي لتكون أساسا لاستقرار حكومي ضروري لمواصلة الانتقال الديمقراطي ولمعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. والحال أن الناخبين منحوا ثقتهم للندائيين وللرئيس الراحل الباجي قايد السبسي لأنهم ذاقوا الأمرين في ظل حكومتي الترويكا لما حاولت حركة النهضة مسنودة بجميع أطياف الحركة الإسلامية لفرض مشروعها الخاص بأسلمة الدولة والمجتمع وكانوا قد حققوا التوازن في الساحة السياسي وأجبروها على التراجع. وكانت الثقة التي منحها الناخبون للندائيين بالتصويت "المفيد" تعبيرا منهم عن إرادتهم لإخراج حركة النهضة من الحكم. لكن أتت "سياسة التوافق" لتساعدها على أن تحافظ على مواقعها في الحكم وتعززها أكثر، كما سمحت لها بمزيد التمكّن من مفاصل الدولة وإحكام السيطرة على أجهزتها، فقد دخلت الحكومة بلا شيء تقريبا وإذا بها حصلت في النهاية على ما يناهز العشرة وزراء زيادة على المدراء والمدراء العامين ورؤساء الدواوين في الوزارات وغيرها، ممّا جعلها تسيطر على مختلف المسالك والدوائر في سلطة القرار وعلى وسائل الإعلام والتواصل.
 كان ذلك هو الوضع الذي عاشه الناخب وتلك هي الحقيقة التي كان يواجهها يوميا في كل ما يهم شأنه الخاص والشأن العام، ولا يمكن لأي تبرير مهما كانت منطقيته أن يقنعه بوجاهة هذه السياسة وبأن إكراهات وضع تونس الداخلي والإقليمي والدولي هو الذي فرض ذلك وبأن حركة النهضة ستكون في النهاية الخاسر الأكبر من "سياسة التوافق". والأخطر في الوضع هو أنه حين يلتفت الناخب يمنة، في اتجاه الوسط، ويسرة لا يجد حزبا أو جبهة أو ائتلافا له من القدرة التي تؤهله بأن يكون القوة البديلة بل كان أمام مشهد يغلب عليه التشظي العنقودي والنفعية والسياحة الحزبية والفساد السياسي والوعود الوهمية والموقف ونقيضه. وهي حالة دفعته إلى النفور من السياسة والنقمة على السياسة والسياسيين دون تمييز. وقد دفعه الإعلام إلى الغرق في أتون شيطنة الأحزاب وعمّقت بعض الجمعيات هذا الميل لديه باعتبارها تريد أن تعوّضها في مهامها في مجلس النواب وفي السلطة وكأنها أحزاب بديلة مثل "تعيش تونسي" و"اتحاد المستقلين" وغيرهما.
 وعلى أساس ما سبق تمكنت القائمات المستقلة من تصدر الانتخابات البلدية، خاصة إذا علمنا أن العديد من الأحزاب كانت وراء جلّها بحيث أن القائمات المستقلة فعلا لا يتجاوز ثلثها، واعتمدت في التشريعية نفس التمشي ومن الطبيعي أن عددا من ممثليها الذين حصلوا مقعد سيأخذ مكانه ضمن الكتل النيابية لأحزابهم، بحيث يمكن الجزم أن المشهد السياسي سيظل مشوها طالما أن المجتمع السياسي والمجتمع المدني لم يأخذا مكانهما في المجتمع كل في مجال نشاطه واختصاصه. وممَا لا شك فيه أن مثل هذا الفرز والاستقرار لن يحدثا إلا بعد عشرية أو عشريتين على الأقل من الممارسة الانتخابية ومن التداول السلمي على السلطة (المحلية والمركزية) تضبط فيها المجالات وتستقل الإدارة والمساجد والجوامع والمعتقدات والأجهزة الحاملة للسلاح عن الأحزاب السياسية باعتبارها الضامن لاستقرار الدولة واستمرارها.
ب ـ الرجة الثانية                    
شهدت الساحة السياسية رجّة ثانية أذهلت الرأي العام تتمثل في تشضي "نداء تونس" وبصورة خاصة لمّا خرج رئيس الحكومة يوسف الشاهد عن "طاعة الأب"، رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي، وتقارب مع حركة النهضة التي تخلّت عن وفاقها القديم وبدأت تهيئ الظروف المناسبة لوفاق جديد في أفق الانتخابات التشريعية والرئاسية 2019. لكن نتائج الانتخابات التشريعية التي حطت من مكانة حزب الشاهد جعلت حركة النهضة تلتفت في اتجاه القوى الجديدة التي تمثل اليمين الديني المتطرف فساعدتها على الصعود بتمكينها من قاعدتها "الغاضبة" وحتى بعض قيادييها من الصقور، وفي اتجاه حركة الشعب والتيار الديمقراطي لتشكيل الحكومة ليترأسها وجه بارز من نهضاوي. وتكون بذلك قد حققت حلم استحقاقها لقيادة المرحلة القادمة وتخلت عن حليفها الأصلي يوسف الشاهد، في مشروع "وفاق 2019" الذي زعزعت به مكانة الرئيس الراحل وفي الإجهاز على "نداء تونس". وهكذا أصبح ممكنا لها توسيع تحالفاتها وتوافقاتها لتضييق صف المعارضة، لكن على ما يبدو أن التيار الديمقراطي مازال مترددا بين المعارضة والمشاركة في الحكومة وكذلك الشأن بالنسبة لحركة الشعب وقلب تونس.
أمّا من جهة الصف الجمهوري فقد أصبح الوضع أكثر تعقيدا خاصة أمام تعدد الأحزاب المتفرعة عن حركة نداء تونس وتفاقم الخلافات بينها الشيء الذي جعل إمكانية جمع "العائلة الندائية" والجمهورية غير ممكن، إذ منيت كل محاولات "الأب المؤسس" بالفشل وتوتّرت علاقاتها أكثر في الدور الأول للانتخابات الرئاسية وزادتها الانتخابات التشريعية تفاقما لأنها خسرت جلّ مقاعدها في البرلمان وفي السلطة فأضحى كل طرف يحمل المسؤولية لغيره.   
لكن يوسف الشاهد الذي أسس حزب "تحيا تونس" وتولى رئاسته لم يتردد في استعمال كل إمكانيات الدولة المتاحة بين يديه لدعمه وكسب الأنصار وتوسيع "إشعاعه" الشيء الذي مكّنه من الحصول على 13 مقعد بينما لم يحصل أي من باقي تفرعات "النداء" على المقاعد التي تسمح لها بأن تلعب دورا حاسما في المجلس وفي الحياة السياسية والحكومية. وبما أن حركة النهضة تبحث عن حليف ثابت بكتلة نيابية تمكنها من ضمان الأغلبية المطلقة في المجلس يحقق لها رئاسة المجلس ورئاسة الحكومة فقد تخلَت عن الشاهد في رئاسة الحكومة باعتباره لم يعد يفي بالحاجة.
وهكذا وجدت القوى الجمهورية نفسها في وضع هامشي على الدولة بمؤسساتها وأجهزتها بعد إن كانت صاحبة شأن فيها، ولن تأخذ مكانها من جديد إلا إذا اتحدت قواها وانتصرت للجمهورية ولانتقالها الديمقراطي وحققت فوزا صريحا في الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية.  
ومن جهة أخرى ظل اليسار والحركة الديمقراطية على تشتتهما ولم يتمكنا من تكوين قطب ديمقراطي اجتماعي مدافع عن الجمهورية ومكاسبها أمام مساعي القوى المحافظة، اليمينية واليمينية المتطرفة، للتعدي عليها، بحيث فشلت كل محاولات تقريب وجهات النظر بينها وتوحيد عملها ناهيكم أن تنسيقية القوى الديمقراطية التقدمية التي تكوّنت بمناسبة الحوار بشأن حكومة الوحدة الوطنية التي جمعت الجبهة الشعبية وحزب العمل الوطني الديمقراطي والحزب الاشتراكي والمسار والجمهوري وحركة الشعب، لم تعمّر طويلا لأن الجبهة الشعبية أنهت المحاولة بصورة أحادية رغم أن ناطقها الرسمي هو الذي قرأ البيان التأسيسي في الندوة الصحفية التي انعقدت بالمناسبة.
وأمام فشل هذه المحاولات ومزيد تدهور الأوضاع اتجهت إرادتنا إلى تكوين جبهة "الإنقاذ والتقدم" التي تألفت بين قوى يسارية وتقدمية وأخرى ليبيرالية منها الندائي ومنها من شارك في السلطة وخرج منها، لكنها فشلت أيضا بالضغط على بعض المكونات إداريا وماليا وانتهى الأمر بانسحابها من التجربة.
ج ـ الرجة الثالثة
لقد بلغ الوضع مستوى من التدهور من النادر أن شهده من قبل بحيث أصبح الفساد السياسي والمالي والاجتماعي سيدا في الساحة السياسية وخاصة في الأحزاب الحاكمة فأصبح المرور بمجلس النواب عنوانا للفساد والوصولية وبوابة للثراء غير الشرعي وتوجهت أصبع الاتهام للعديد من النواب. وأمام هذا الاضطراب لم يعد ممكنا تقريب وجهات النظر بين القوى الجمهورية فقد اشتدت الفرقة بين تفرعات النداء والأحزاب الحاكمة بما في ذلك بين مكونات كتلة الجبهة الشعبية حتى أنه أصبح من الصعب التوصل لإتمام تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وانتخاب رئيسها استعدادا للموعد الانتخابي بينما لم يكن ممكنا التوصل لاتفاق حول المحكمة الدستورية. وأصبح مجلس النواب أيضا فضاء لتدخل رجال الأعمال بمناسبة نقاش الموازنات السابقة لكسب الأصوات لفائدة هذا التنقيح أو ضده، ممّا أحاط النواب بهالة من الشك والريبة وألحق أضرارا فادحة بمصداقيته وتميليته للشعب. في مثل هذه الظروف انفجر ملف تسفير الشباب لبؤر التوتر عن طريق التحقيقات التي قامت بها اللجنة البرلمانية وأكدت فيها تورط العديد من القيادات النهضوية وملف "الجهاز السري" الذي يضع حركة النهضة تحت المجهر بصورة جدية.
د ـ الرجّة الرابعة
تقدمت الحكومة بمشروع تنقيح للقانون الانتخابي وأضافت كتلة "الحرة" بنودا شفوية في غمرة النقاش في الجلسة العامة تستهدف أفرادا ومجموعات بعينها صادق عليه المجلس بالأغلبية وتمّ توجيهه لرئيس الدولة الذي امتنع عن إمضائه حتى وافته المنية. وقد أحدث موقف الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ارتباكا عظيما في الساحة السياسية وبصورة خاصة لدى الأحزاب الحاكمة والمجموعات والذوات الطامعة في السلطة.
وفي نفس تلك الظروف تمّ نقل رئيس الدولة الراحل إلى المستشفى العسكري وإذا بنبإ يزعم وفاته عمّ الشبكة فانطلقت في أروقة البرلمان مشاورات بين الكتل لمعاينة الشغور الدائم أو المؤقت في الوقت الذي وقعت فيه عمليتان إرهابيتان، وما يمكن أن يقال أن التزامن بين الأحداث غريب. ثمّ أتي رحيل الباجي قايد السبسي ليبعثر كل الأوراق والحسابات بما فيها الانتخابات بحيث تمّ تسبيق الدور الأول للرئاسية على التشريعية ثم يليهما الدور الثاني. وكان لهذا التواتر والضغط انعكاس سيء على الناخب الذي انخفضت مشاركته في التشريعية. لكن التأثير الأخطر هو الذي حصل على الأحزاب بالنجاح أو الفشل في الدور الأول للرئاسية على التشريعية وتأثير نتائج التشريعية على الدور الثاني من الرئاسية. وهي تأثيرات دعت الأحزاب إلى تكييف سلوكها السياسي والانتخابي وتعديل تحالفاتها، ممّا جعل صفوفها عرضة للاهتزاز وبالتالي إلى التنافر أو مزيد الوحدة، لكن حركة النهضة كذبت كل التوقعات كما أن الدور الثاني من الرئاسية حطم كل الأرقام القياسية.
2 ـ الزلزال
أ ـ إلى أي مدى كان التصويت في الدور الأول للرئاسية عقابيا؟
ما من شك في أن ثماني سنوات من التدهور المستمر لأوضاع الشعب العامة ومن التفقير المتواصل الذي أصاب الشعب الكادح والطبقة الوسطى وفئات من الطبقة الميسورة وأن ثماني سنوات من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية، ومن الثراء الفاحش لقلة قليلة في المجتمع لا تتجاوز العشرين عائلة تستحوذ على الثروة الوطنية، ومن الفساد والرشوة والارتشاء الذي أفسد المجتمع ونخره. ما من شك أيضا أن الناخب شهد العديد ممن منحهم ثقته وأعلاهم بأن يكون ممثلي الشعب عاثوا في الأرض فسادا، وتلاعب فيها حكامه وأحزابهم الحاكمة بإرادته وعبثوا بالمصلحة العامة وبالمصلحة الوطنية واستهتروا بالوعود التي قطعوها على أنفسهم أمامه وتجاهلوا طموحاته وأحلامه، فمن الطبيعي أن يتجه هذا الناخب في الموعد الانتخابي إلى سحب الثقة من الذين منحهم إياها في المواعيد السابقة، وهو سلوك يسمى عقابي. لكن هذا الميل في التصويت يجد مؤشر تبريره في المزاج العام للناخبين وللشعب، لكن التعمّق في تقييم المشهد يبيّن لنا أن أسباب أخرى لهذه النتائج هي الأقوم.
ب ـ تعدد الترشحات لقيادات الأحزاب والشخصيات "الوسطية" هو الذي شتت الأصوات
أبدأ بتوضيح وهو أنني أستعمل مصطلح "الوسطية" لتجاوز الجدل حول الانتماء الطبقي للأحزاب والشخصيات المعنية للمرور مباشرة لتفكيك الظاهرة. إن الملاحظة التي تشدّ الانتباه هي أن مرشحي "العائلة الوسطية" تقدموا للناخبين متفرقين ومتزاحمين في نفس المجال الانتخابي، أي المجال الحداثي، فتشتت الأصوات الأمر الذي جعلها غير منتجة لأنها لم ترفع مرشحا واحدا منها للدور الثاني. وممّا يؤكد هذا المذهب هو أننا إذا جمعنا الأصوات التي حصل عليها عبد الكريم الزبيدي ويوسف الشاهد مثلا يصبح ممكنا مرور من يتفقان عليه للدور الثاني بسهولة، فما بالكم إذا جمعنا بقية أصوات "العائلة الوسطية". لذلك لا يمكن الأخذ بالتصويت العقابي. وحتى إن وجد فهو محدود بل ينبغي إيلاء تشتيت الأصوات المكانة الأولى في تحليل النتائج، لأننا إذا أخذنا بالتصويت العقابي فإن ذلك يعني أن الناخب ومن ورائه الشعب غاضب ويسحب ثقته من ممثليه، لكن الحقيقة هي أخرى وتتمثل في أن الناخب مازال يثق في نوابه وحكامه، إلى هذا القدر أو ذاك، فوزّع عليهم أصواته دون أن يكون على وعي بأن ذلك سيضعف حظوظهم أمام منافسيهم لذلك تفرقت أصواته ولم تتجمع بالقدر الكافي الذي يرفعهم إلى مرتبة ممثلي الشعب. لكنه ليس مسؤول على تعدد ترشحات "العائلة الوسطية" بل تعود المسؤولية للمرشحين الذين لم يدركوا أن عدم اتفاقهم على مرشح واحد من شأنه أن يشتت الأصوات ويضعف حظوظهم للمرور إلى الدور الثاني لأنهم ليسوا على وعي بأن واجبهم يدعوهم إلى الوحدة للمرور للدور الثاني والفوز برئاسة الدولة لحماية الدولة من الانهيار والجمهورية من الارتداد والبلاد من الخراب الاقتصادي. وأمام ضعف وعيهم بمصالح طبقتهم ووطنهم تشبثوا بذواتهم ولم يفكروا في المصلحة العليا للشعب والوطن وتفرقوا. فكانت الأصوات التي أحرزوا عليها غير منتجة، وكانت ضعيفة الإنتاج في التشريعية. ألم يحن الوقت كي يحكموا العقل؟
ج ـ استراتيجية حركة النهضة " أمطري حيث شئت..." 
هل يمكن القول أن التصويت العقابي قد لحق حركة النهضة؟ إن حصل ذلك فهو محدود للغاية لأننا إذا قارنا بين الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات البلدية وتلك التي حصل عليها عبد الفتاح مورو فهي تقريبا متساوية، ممّا يعني أنها لم تخسر أصواتا بل كسبت لكنّها خسرت في تشريعية 2014 مقارنة بتأسيسية 2011. والملفت للانتباه أن التحفظ في الأوساط الشعبية كبير تجاهها لكنه لم يترجم في تصويت عقابي بشكل أسقط مرشحها رغم أنها كانت في السلطة منذ 2011 ومثلت العمود الفقري للحكومات المتعاقبة. إننا نعتقد أن التشتت شملها أيضا، بحيث أن 5 مرشحين ينتمون للإسلام السياسي بالإضافة إلى إثنين لهما ميولات لهذا التيار. وزيادة على ذلك فقد اختارت توجيه التصويت داخل جمهورها الانتخابي في اتجاهين رئيسيين، عبد الفتاح مورو وقيس سعيد، وحسب الدوائر الانتخابية في اتجاه سيف الدين مخلوف وصافي سعيد، رغم أن قواعدها لم تعد منضبطة كما كانت في سابق عهدها لذلك أعدت لهم مشهدا إسلامي متعدد كي يسهل جعل أصواتها منتجة في نهاية العملية. إن خيار التصويت الذي قررته يضمن لها تحقيق استراتيجيتها لوضع يدها، سواء مباشرة أو بصورة غير مباشرة، على الرئاسات الثلاثة باعتباره استحقاقا لقيادة المرحلة القادمة. لذلك كان التصويت لفائدة قيس سعيد، مستشارها الخاص في المرحلة التأسيسية وعصفورها النادر الذي أعدت لصعوده بحذق فائق وتخطيط محكم وكان إسقاط مورو محسوبا حسابا جيَدا من قبل الغنوشي وفريقه المضيق، ولذلك تسابقت تفرعات حركة النهضة المتطرفة وقادتها من بين الصقور في الاعلان عن دعمهم ومساندتهم للعصفور النادر وأطلقت العنان لجيشها الإليكتروني لمهاجمة خصومه. لقد اتبعت حركة النهضة استراتيجية "أمطري حيث شئتي..." ممّا يحملنا على القول أنه من الصعب أن تكون بصدد خسران جمهورها بحيث يكفي جمع الأصوات التي حصل عليها قيس سعيد وعبد الفتاح مورو كي نجد أنها تناهز المليون صوت وهو العدد الذي حصلت عليه في 2014. لذلك فإننا نعتقد أن التصويت العقابي فكرة أتت لتحجب عنّا تغوّل حركة النهضة ومسكها بمفاصل الدولة والمجتمع وتقنعنا بأن الشعب سئم المنظومة القديمة ويبحث عن بديل مباشر حتى وإن كان قيس سعيد وجماعات الإسلام السياسي المتطرفة وأن الشعب الناخب بلغ درجة من الوعي مكّنه من معاقبة الأحزاب الحاكمة ومنظومة الحكم.   
د ـ اليسار يجني ما زرع
ذهب الظن بالعديد من الملاحظين أن التصويت العقابي قد نزل على اليسار بدعوى أنه لم يأت شيئا إيجابيا ولم يكن وفيا للوعود التي قطعها أمام الناخبين والحال أنه لم يكن في السلطة التنفيذية كي يتحمل مسؤولية وضع البرامج التنموية حيّز التطبيق. ورغم أن مسؤولية الجبهة الشعبية كانت محدودة فقد فرّطت في موجة التعاطف التي شملتها على إثر اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي بالصراعات التي قابلت بين مكوناتها بشأن الترشح للانتخابات الرئاسية والتي انتهت بانقسامها وتقدم اثنان بترشحهما يمثل كل واحد منهما مجموعة بعينها. وممّا زاد الطين بلّة هو ترشح ثالث من خارج الجبهة ينتمي إلى اليسار. وهو وضع قدّم مشهدا متنافرا لليسار فتشتت القوى وضمرت فانفضت من حولها القوى الإضافية التي ناصرتها وبذلك عاد كل طرف إلى حجمه الطبيعي الذي ناسبه عدد أصوات الناخبين الذي حصل عليه.
لم يدرك اليسار أن الشعب ينجذب إلى القوّة لخدمة مصالحه ويتعاطى بصورة نفعية مع السياسة لذلك لم يوحّد صفوفه على الحد الأدنى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والوطني بشكل يحوّله إلى القوة المنشودة القادرة على المراهنة على السلطة كي تتمكن من تنفيذ برنامجها الذي يخدم مصلحة الشعب والوطن. وأمام هذا القصور فقد حصد ما زرع، خاصة وأن السياسة أصبحت تقاس بالنتائج وليس بالصمود والنضال.
هـ ـ "المفاجأة الكبرى"
لم تكن النتائج مفاجئة لأن استطلاحات الرأي كانت جميعها تشير إلى أن المرشحين الذين مرّا إلى الدور الثاني قد تصدرا المشهد. لكن قليل من قادة الأحزاب والساسة والملاحظين من قبل بهذه الواقعة باعتبارها حقيقة ممكنة الحدوث إذا ما ظلت المكونات التي أنتجتها على حالها وبذلوا كل الجهد في التنبيه للخطر الذي قد ينجر عنها فدعوا إلى توحيد "العائلة الوسطية" والقوى اليسارية للدفاع عن الجمهورية ومكاسبها وعن الدولة الوطنية. لكنّها غفلت عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي تبعات الزلزال العنيف الذي هزّ الساحة السياسية، بحيث ظلت "العائلة الوسطية" على فرقتها واليسار على جفائه والنهضة في مناوراتها، والقوى الصاعدة تكتسح المجال الانتخابي. إن عدم أخذها باستطلاعات الرأي يعود إلى أنها تعتقد أنّها عموما معدّة للتأثير على الرأي العام وتوجيهه لأنها لعبت هذا الدور في العديد من اللحظات السياسية التي مرت بها بلادنا وأن الأحزاب الكبيرة كثيرا ما استعملت هذا النوع من الاستطلاعات لتعزيز مكانتها بين الجماهير. فأسفرت نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الأول على فوز قيس سعيد بالمرتبة الأولى بنسبة 18.4% ونبيل القروي بالمرتبة الثانية بنسبة 15.58% وتلاهما في المرتبة الثالثة عبد الفتاح مورو بـ12.88% وفي الخامسة عبد الكريم الزبيدي بـ10.73% وفي السادسة يوسف الشاهد بـ7.38% بينما استقر اليسار في آخر الترتيب بـ0.81% لمنجي الرحوي و0.69% لحمه الهمامي و0.17% لعبيد البريكي، بحيث يكون حاصل اليسار في الدور الأول للانتخابات الرئاسية 1.67%.
إنها نتائج، بقطع النظر عن الأسباب التي ولّدتها، بمثابة الزلزال الذي حط الأحزاب التي تصدرت المشهد السياسي بعد 14 جانفي ورفع أخرى إلى السطح. وكنّا قد رصدنا أسباب النزول وسنحاول التعرّف على أساب الصعود.
نبدأ بقيس سعيد
و1 ـ هل أن قيس سعيد ظاهرة هلامية؟
من غير المنطقي أن يحوز مرشّح على أغلبية أصوات الناخبين وهو لم يتمكن من الاقتراب منهم ومن التعرف على مشاغلهم وتطلعاتهم وآمالهم وحيرتهم وخوفهم وغضبهم. لذلك ينبغي العودة للنظر بعمق في فعل قيس سعيد والمحيطين به. إن ما هو معروف عليه هو أنه رجل قانون محافظ تغلب الطيبة على طباعه، إذ لم يكن معارضا في حياته لبورقيبة ولبن علي ولأي نظام. وقد ظهر إلى العموم في القناة الأولى في نشرة الأخبار الرئيسية عند الثامنة مساء كخبير بشأن القضايا الدستورية التي كانت تواجهها بلادنا فشد انتباه الناس بلغته العربية وطريقته في الكلام كصاحب سلطة علوية لا تجادل في ما ينطق به. وساعده الصيت، الذي حظي به، على التنقل مع الجمعيات وبينها كخبير. وهكذا تمكّن من ربط علاقات واسعة مع النشطاء غير المنتظمين ومع بعض الجماعات ذات المرجعيات الأيديولوجية والسياسية المتناقضة وبصورة خاصة مع بعض المجالسيين. فقد كانت له علاقة وطيدة بشكري بن عيسى، ذي الميولات الإسلامية، وقد يكون من بين قادة إحدى الجماعات، وهو إطار عال في الشركة الوطنية للكهرباء والغاز، تجاوز الخمسين من عمره. وقد كان هذا الرجل خلال أيام الحراك الشعبي يؤطر مجموعة من الشباب الذين يحتلون الساحات وشاركوا في اعتصامي القصبة وفي الاعتصام الذي حدث أمام مقرّ التلفزة الوطنية، حين كانت مختلف قوى الحركة الإسلامية تخطط للانقضاض على السلطة. كما أن قيادات بارزة في روابط حماية الثورة كانت من بين العناصر المحيطة بالسيد قيس سعيد كما أن له علاقات وطيدة مع حركة النهضة بمن فيهم أخيه نوفل، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فقد كانت له علاقة متينة بإطار من الوكالة التونسية للتبغ والوقيد السيدة سنية الشربطي التي تنقلت معه بين الجهات وكانت له أيضا علاقة وطيدة برضا المكي. ولا أظن أنه سيتحدث عند احتساء قهوة مع رضا المكي وسنية الشربطي أو رضا بالحاج عن "حكايات تونسية" بل ستكون القضايا السياسية محور هذه اللقاءات؟
ومن الطبيعي أن تجري عملية التأثير والتأثر وأن تتقاطع المشاريع أو يوظف الواحد الآخر ضمن خطة معينة ومن الطبيعي أن يكون التأثير الأكبر لصاحب القوّة وأن تكون له الكلمة الفصل، ولا أعتقد أن المجالسيين يمكن لهم معادلة القوى الإسلامية للتأثير في مجرى الأحداث. ومنذ أن حلّت سنة الاستحقاق الانتخابي بدأ ظهور اسم قيس سعيد على لائحة استطلاعات الرأي من بين المرشحين المحتملين للرئاسة، على الرغم من أنه لم يعلن عن نيته تلك. وبدأت مرتبته تتحسن وتتجاوز المتصارعين والمتنافسين على الرئاسة وتأخر عن تقديم ترشحه بعد وفاة رئيس الدولة قايد السبسي ولم يفعل إلا بعد 30 لقاء جمعه براشد الغنوشي، حسبما صرّح به الأستاذ نجيب الشابي في قناة الحوار التونسي. كانت حملته شبه صامتة مقارنة بغيره ومع ذلك تمكن من الفوز في الدور الأول.
وأمام هذا الفوز سارعت حركة النهضة وحركة الشعب والحزب الجمهوري وحزب المؤتمر وحزب الإرادة والاتحاد الشعبي الجمهوري وائتلاف الكرامة (سيف الدين مخلوف) والتيار الديمقراطي بالإعلان عن مساندتها لقيس سعيد، كما أعلن سيف الدين الرايس (الناطق الرسمي باسم أنصار الشريعة) عن مساندته له وانتهى الأمر بحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد بإصدار بيان يدعو فيه الناخبين بالتصويت لفائدته، لكن الإتحاد العام التونسي للطلبة (النهضاوي) فقد تدخل لدى وزير التعليم العالي كي يمكن الشباب الطلابي من عطلة يوم السبت كي يتمكن من العودة لمسقط رأسه للمشاركة في الانتخابات وعلى ما يبدو أنه تكفّل بمعلوم التنقل. وما هو واضح أن أغلبية المساندين هم من جماعات الإسلام السياسي والخطير في الأمر أن أصحاب التصورات الأكثر تطرفا هم من بين الذين يشكلون حزامه الآمن ويعبرون عن هويته، وإذا كان سقراط قال "تكلّم حتى أراك" يمكن لنا القول "حدثني عن أصدقائك وشركائك حتى أعرفك".
إن الأحزاب والشخصيات الديمقراطية واليسارية والقومية التي تساند قيس سعيد ليس لها من القوة ما يمكنها من ردّ عملية الالتفاف التي تقوم بها الحركة الإسلامية عليه، بما فيها حركة النهضة التي أفرغت كل حمولتها هناك، ولا هي قادرة على التصدي لأطروحاتها، ممّا يفرض عليها أن تلعب دور ورقة التوت. فالصقور يشددون على الخطر الذي يمثله الديمقراطيون والتيار المجالسي على الجمهورية والمؤسسات وكأنهم يريدون التخلص منه على عجل.

و2 ـ الهلامة قيس سعيد والشبكة الفايسبوكية المحكمة
إننا إذا دققنا في نسبة الذين صوتوا في الدور الأول لقيس سعيد فقد كان من بينهم ما يزيد عن الـ 47% شباب مثقف تتراوح أعمارهم بين الـ18 والـ25 سنة، ممّا يعني أن جلّهم يزاول دراسته بين "الباك..." ومرحلة الإجازة وفي أحسن الحالات الماجستير، وهو صنف منغمس في الفضاء الافتراضي وغالبا ما يكون مشاركا في مجموعات مغلقة تملأ فراغه وتؤطره في التعبئة التي يقوم بها لإنجاز عمل بعينه. وحسب بعض المختصين فإن هذه المجموعات تجند في الظروف العادية ما يفوق عن الـ350 ألف منتم وفي حالات التعبئة القصوى يمكن أن تصل إلى 1400 ألف، وهو عدد الذين سحبوا متابعتهم لقناة الحوار التونسي خلال يومين، مع العلم أن ما يزيد عن الـ900 ألف قد انسحبوا في الساعات الأولى، كرد فعل عقابي على موقف القناة من قيس سعيد. وذلك على الرغم من أن موقفها لم يكن مناهضا له بل لمجرّد أنها طالبته بالكشف عن وجهه وبتوضيح مواقفه من القضايا الحارقة التي تهم مستقبل البلاد ومن الأسلوب الذي سيتناول به السياسة الخارجية والدفاع.
إن أمثال هذه الشبكات هي التي لعبت أدوارا خطيرة في العديد من البلدان فقد أثرت بدرجة كبيرة في انتخاب ترومب للرئاسة الأمريكية والتصويت لفائدة خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. إن أمثال هذه الشبكات أيضا هي التي استعملتها جماعات السلفية الجهادية الداعشية على النطاق العالمي في استمالة وتجنيد الشباب إلى بؤر التوتر. وقد لا يكون نفس الأشخاص الذين أداروا مختلف هذه العمليات لكن ما هو ثابت أنها نفس المنظومة في أطوار تكنولوجية وخوارزمية مختلفة، أي أنه يمكن لمجموعات مختلفة أن تقتنيها كي تستخدمها لأغراضها الخاصة، وقد تكون تحت قيادة واحدة. لذلك فإننا نعتقد أن مثل هذا العمل لا يمكن أن يقوم به شباب متطوعون لهم ولع بالشبكة بل هو عمل محترف لأجهزة تقود جيشا افتراضيا شبكيا يحدد أهدافه ويشنّ هجماته فيستحوذ على المجال الذي يفتحه كلما سنحت له الفرصة ذلك.
و3 ـ قيس سعيد نقطة التقاطع بين المجالسية واللجان الثورية والإمارات الإسلامية
لم يكن قيس سعيد الوحيد الذي دعا إلى ترك التصويت على القائمات لفائدة التصويت على الأفراد في دورتين في دوائر ضيقة (المعتمديات)، لكن إضافته تتمثل في أن المرشح يتقدم بمشروع يتم انتخابه على أساس الالتزام به ويأخذ على عاتقه ما يريد الشعب تحقيقه ولا يتمّ قبول الترشّح إلا بتزكية عدد من الناخبين، لم يحدده بعد، وإذا لم يلتزم بذلك "تسحب منه العهدة". هذا بشأن السلطة المحلية، أما فيما يتعلق بالسلطة الجهوية فيتم تكوينها من ممثلي السلط المحلية وبنفس الأسلوب تتألف السلطة المركزية التي لا تفعل شيئا سوى الوقوف عند مشيئة السلط المحلية التي تمثل سلطة الشعب وبرنامجها ليس سوى تجميعا للبرامج المحلية والجهوية. ولسائل أن يسأل أي دور للقائد السياسي، فردا كان أو حزبا أو تحالفا...، وأي مسؤولية يمكن له أن يتحملها في المجتمعات؟ لا شيئا غير الأسفار التي يحملها. لأن عملية الانتقاء القاعدية هذه تشبه إلى حد كبير عملية الانتقاء الطبيعي باعتبارها لا تقيم وزنا للوعي النخبوي أو الطليعي الذي يتقدم به للشعب والذي يكرسه مشروع الدولة والمجتمع ومنوال التنمية والمشروع الثقافي والتربية والتعليم وسائر الحاجيات المجتمعية، بدعوى أن كل هذا موجود عند الشعب وما علينا إلا العودة إليه كلما كنا في حاجة إلى ذلك، ممّا يعني أن خياراتنا ستتغير حسب "إرادة الشعب"، تماشيا مع شعار "الشعب يريد". وهكذا يفقد المجتمع مرجعياته الأساسية التي تحدد في إطار المراحل التاريخية لتطوره والتي تلعب النخب الدور الأساسي في تأثيثها ووضعها، لتعوّضها التفاعلات العفوية للشعب بشكل لا متناهي. وبمثل هذا المقترح يضع قيس سعيد الوعي النخبوي أو الطليعي في موقع متخلف بالنسبة للوعي الأولي أو إدراك الإنسان في مرحلة الوعي العفوي ليحوّله إلى وعي شعبوي. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم كيف أمكن للمجموعات التي تبدو متناقضة أن تجد نفسها في فضاء واحد وضعه قيس سعيد أو وضع له؟
لقد وجدت المجموعتان المجالسية وروابط حماية الثورة نفسيهما بصورة تلقائية على مقربة من "النبي المجهول" في الحراك الاجتماعي منذ 14 جانفي. فقد كان للأولى شبه مجموعة حزبية وضعت فيها نظرية المجالس حيّز التطبيق دون أن يرتقي بها أصحابها إلى تجربة للسلطة القاعدية، لكن الثانية انطلقت تجربتها من "لجان حماية الثورة" التي تأسست في الأحياء بعد رحيل الراحل بن علي عن السلطة والتي جمعت بين "الروابط" ومجموعات يسارية ونخص بالذكر منها مناضلي وأنصار حزب العمال. وقد أرادت الأطراف المشاركة في "اللجان" أن تجعل منها ما يشبه السلطة المحلية من النمط "السوفياتي" بحيث قررت إجراء انتخابات محليّة ووطنية. وخلال هذه العملية تمّ طرد اليساريين من قبل الإسلاميين بالعنف المنظم من المؤتمرات واستولوا على "اللجان"، ثمّ أرادوا أن يجعلوا منها أطرا قانونية فتقدموا بطلب تأشيرة لـ"رابطات حماية الثورة" التي حصلوا عليها.
وزيادة على هذين الجماعتين فقد أعلن سيف الدين الرايس، الناطق الرسمي باسم "أنصار الشريعة"، مساندته لقيس سعيد لأنه لا يرى في مشروعه عائقا أمام قيام الإمارات الإسلامية التي يمكن لها إلا أن تتأقلم مع المجالس واللجان الثورية. ونودّ أن نوضّح بأنّ إعلان المساندة وحده لا يكفي لتأكيد إمكانية الانسجام مع المشروع "الرئاسي"، بحيث يكفي أن نشير إلى مساندة حركة النهضة له أتت في إطار البحث عن "العصفور النادر". أما حركة الشعب فإنها ساندت قيس سعيد للتقارب الصريح بين مشروعه وبين المجالسية واللجان الثورية لأنه كان قد أعلن عزمه على حلّ البرلمان (التمثيل تدجيل) وحلّ الأحزاب (من تحزب خان) والجمعيات خاصة وأن التفاهم مع حركة لا يمثل عائقا لأنها عادت إلى المسار الثوري.
أما مساندة الأحزاب اليسارية والديمقراطية فلم يكن للتقارب في الشكل التنظيمي أو الأيديولوجي أو السياسي بل لمجرد التباين مع "الفساد" و"المنظومة القديمة".
نتتبع الآن مسار صعود نبيل القروي
ز1 ـ نبيل القروي رجل أعمال لا شأن له بالسياسة يترشح للرئاسة
أسس نبيل القروي قناة نسمة أيام حكم بن علي وللتذكير بأنها كانت مغاربية وبعيدة كل البعد عن البرامج السياسية وحتى الإعلامية ولم تبدأ مغامرتها تلك إلا في أواخر عهد بن علي. ثم بعد 14 جانفي أصبح نشيطا في تطوير قناته كي تلعب دورا هاما في الحوار السياسي والفكري الذي كان قابل بين مشروعين للدولة والمجتمع. ولعب دورا كبيرا صحبة سليم الرياحي في الإعداد للقاء باريس بين الشيخين ولعبت قناة نسمة دورا مهما في حملة الراحل الأستاذ الباجي قايد السبسي وفي حملة مرشح الجبهة الشعبية حمه الهمامي وأصبح من بين قادة نداء تونس ثم انسحب.
وشاءت الظروف أن توفي ابنه خليل في حادث مرور فتوجّه للعمل الخيري عن طريق جمعية أسسها للغرض "خليل تونس" التي صعد نجمها بسرعة ومعها نجم نبيل القروي الذي توجّه بهذا العمل إلى مناطق الظل في الجهات المحرومة من التنمية وفي الأحياء الشعبية بالمدن الكبرى. ولمّا تعززت علاقاته بـ"الفقراء" توجّه طموحه، وهو "مصعّد الرؤساء"، إلى أن يخدم نفسه بنفسه بأن يؤسس حزبا ويترشح للرئاسة.
وما أن أعلن عن نيّة الترشّح للرئاسة حتى بدأ اسمه يبرز في استطلاعات الرأي ويتصدرها وبدأت ماكينة حركة النهضة ورئاسة الحكومة تتحرك ضده وانتهى الأمر باستدعائه للقطب القضائي فقرر حاكم التحقيق إبقائه في حالة سراح مع إجراءين تحفظيين المنع من السفر وتجميد الأموال. لكن بمجرد أن استأنف محاموه القرار التحفظي حتى أصدرت دائرة الاتهام قرارا بإيقافه. وظل في السجن حتى في الحملة الانتخابية للطور الأول من الرئاسية التي فاز فيها بالمرتبة الثانية ليتمكن من المرور إلى الطور الثاني ولم يطلق سراحه إلا قبل أربعة أيام من الانتخابات.


ز2 ـ الصعود الصادم لنبيل القروي
لم يكن لنبيل القروي سابق علاقة بالسياسة في السلطة أو المعارضة لكن بعد ثلاث سنوات من وفاة ابنه ومن العمل الخيري في المناطق التي غابت فيها السلطة قرر خوض غمارها مستهدفا رئاسة الدولة والأغلبية النسبية في البرلمان، أي رئاسة الحكومة. وكأن ذلك سيكون سهلا عليه خاصة وأن السياسة ليست موضوعا يدرّس في المعاهد والكليات بل هي فكر وممارسة ومشروع مجتمعي يرافق المرء منذ أن أعطى لنفسه هوية وبدأ يظهر عليه الالتزام بها ويعمل على أن تأخذ مكانها في المجتمع ويناضل في سبيل تحقيق المشروع الذي يجمعه مع غيره من المناضلين في حزب أو تجمع سياسي آخر. إن السياسة معرفة ودربة وخبرة لا تكتسب إلا بعد فترة طويلة نسبيا، لمّا تتجمع عند امرئ تجعل منه رجلا سياسيا يمكن له أن يطمح للترشح إلى مراكز حساسة. لكن مرور نبيل القروي السريع من رجل أعمال إلى العمل الخيري فإلى السياسة أمر يدعو إلى التفكير؟ إن صعوده الصادم لنبيل القروي مقارنة بباقي المرشحين يعود إلى أنه توجّه إلى المواطن التي كانت الدولة فيها غائبة واستعمل قناة في عمله الاتصالي بشكل يسّر عليه ربط صلة مباشرة بالجماهير المفقرة، وزاده صراعه مع الحكومة و"الهايكا" سمعة بينها.
لقد اتبعت حركة النهضة نفس التمشي في المرحلة التأسيسية زيادة على عنوان الضحية الكبرى للمنظومة السابقة وعلى أنها "تخاف ربي" فكانت لها الغلبة في انتخابات المجلس، لذلك آمل في أن يعيد التجربة نفسها أو ما يشبهها. لكن من مسك بالسلطة وأدارها وتعرف على أهمية المصالح التي تمثلها تعلم حرفة تصفية خصومه والتحوط منهم كي لا يتقاسموا معه الغنيمة لذلك ضبطت حركة النهضة مخططل لإفشاله في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية وهي تستعد لتفكيك حزبه ومؤسسته الإعلامية في المرحلة القادمة.   
ز3 ـ نبيل القروي والشعبوية؟
ما من شك في أن نبيل القروي حاول استمالة فقراء تونس وكسبهم إلى جانبه برفع شعار "نقطعو تسكرت الفقر"، رغم أنه يعلم أن مواجهة الفقر من مهمات الدولة إذا كانت توجهاتها اجتماعية تضامنية وليس بالعمل الخيري الذي تقوم به الأحزاب والجمعيات وليس بالعطاءات والمساعدات الظرفية التي يقوم بها الأفراد أو الدولة نفسها. لكن برنامج نبيل القروي الذي حاول شرحه في المناظرة التي جمعته بقيس سعيد جعل تحقيق النهوض الاقتصادي والاجتماعي مرتبطا بصورة أساسية بالاقتصاد الرقمي وبالسياحة بجلب الاستثمارات وهذا لا يجعل منه برنامجا شعبويا، لأن الشعبوية ليست سوى خطابا سياسيا يتحدث لغة الشعب بل هي معاداة للحريات العامة والفردية بما فيها حرية التنظيم الحزبي والمدني  لتعوضهما بتنظيم شبه عسكري. لكن مشروع السيد نبيل القروي الاقتصادي والاجتماعي رغم الغموض الذي يحوم حوله هو برنامج ليبرالي قائم على تحرير الدينار وتحرير الاقتصاد من القوانين الاشتراكية التي تكبّله إلى حدّ الآن وتعيق المبادرة فيه. ولمرافقة هذا البرنامج يقترح مناهضة الفقر، وهو بذلك لم يرتق حتى إلى مستوى الليبرالية الاجتماعية.  وهذا لا يجعل منه برنامجا وخطابا شعبويا. لذلك فإن ضم نبيل القروي و"قلب تونس" إلى التيار الشعبوي من شأنه يكسو خياراتهما الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية بجانب اجتماعي أقرب إلى الأخلاق الإسلامية الخاصة بالصدقة.       
3 ـ المنزلقات الكبرى التي كشفت عنها الانتخابات                                  
أـ عودة خطاب "الثورة" و"الثورة المضادة"، "السيستام" و"ضد السيستام"
شهدت الساحتان السياسية والإعلامية ظهور مصطلحات "الثورة" و"الثورة المضادة" و"الأحزاب الثورية" و"اللحظة الثورية الأولى"، أحيتها المجموعات اليسارية المنتظمة وغير المنتظمة التي أخذها الخطاب الثوري الحالم بمواصلة المسار الثوري وبتحقيق أهداف الثورة والجماعات الإسلامية المتطرفة للتبشير بقدوم الموجة الثورية الثانية التي تعمل من خلالها على فرض مشروعها على الدولة والمجتمع بكنس القديم ووضع أسس الدولة الإسلامية، كما استعملتها حركة النهضة كمنصة للتقارب مع الجماعات الإسلامية التي تقف على أقصى يمينها ومع بعض مكونات الحركة القومية واليسارية التي تختلف معها أيديولوجيا وسياسيا. لكن الأخطر في العملية هو أن كل الذين عادوا إلى "الخطاب الثوري" يعملون على إيهام الناخبين وعموم الشعب التونسي بأنهم أصحاب النقاوة الخالصة التي ظهرت في "اللحظة الثورية الأولى" وهو مقام يشرّعون به ليكونوا أوصياء على الانتقال الديمقراطي وتوجيهه الوجهة التي يريدون وأن يفرضوا سلطانهم على الشعب التونسي وأن يزيحوا من يقفون في الصف المقابل لهم عن دائرة الفعل السياسي وبذلك يفتحون الطريق أمامهم لإقامة نظام استبدادي على أساس عقائدي.
إن عودة حركة النهضة إلى الخطاب الثوري التحريضي القائم على التضاد بين الإسلام والمعارضين له وبين الثورة والثورة المضادة وعلى القطيعة بين "الثوريين" والمنظومة القديمة أملا في إرضاء الغاضبين وعودتهم إلى الصف وفي استعادة روح الثقة التي كانت جمعتها بخزانها الانتخابي الذي خسرته فيما بين الانتخابات التأسيسية في 2011 والانتخابات التشريعية لسنة 2014. كما أن عودة حركة النهضة لخطاب "اللحظة الثورية الأولى" يهدف إلى تعزيز روابطها بالقوى الديمقراطية واليسارية التي هي على استعداد للتوافق معها تحت أي مسمى.
وظهرت، إلى جانب عودة الخطاب الثوري، صخب بشأن التضاد بين الخارجين عن "السيستام" وعن الذين من "السيستام"، بدعوى أنه "سستام" فاسد "يضرب بالضو" لذلك يصح الخروج عنه ومن يفعل ذلك يصبح ثوريا حتى وإن كان لا يؤمن بالدولة أو كان "داعشيا". والحال أن جلّ الأحزاب الفائزة في الانتخابات تنتمي "للسيستام". لذلك فإن الداعين إلى الخروج عن "السيستام" يذكروننا بأصحاب "إدارة التوحش" في تعبيرة أشدّ راديكالية من الذين يريدون تغيير الأسس التي تقوم عليها الدولة ونظام الحكم لنجد أنفسنا أمام حالة فوضوية تشبه "الفوضى الخلاقة" التي يخرج منها ثور أسود لا يقف عند حدّ.           
ويتضح ممّا سبق أن التحالف الواسع الذي يمكن لحركة النهضة أن تؤلفه حولها لتتمكن من الحكم ليس سوى الثورة الثانية "عبر الصندوق" التي يحلم بها حلفاؤها وقواعدها والتي تأخذ طابعا إسلاميا صريحا، بمعنى الإسلام السياسي. نحن إذن لسنا أمام عودة لـ2011 بل لمشروع بناء "الجمهورية الإسلامية" الذي أعلنت عنه ما إن اشتد عودها ولمّا لم تتمكن من تحقيقه أمام ضغط الحركة الجمهورية، الديمقراطية واليسارية، والحركة الشعبية المناصرة لها تراجعت خطوات إلى الوراء وقبلت بالتوافق مع "نداء تونس" وها هي ذا اليوم تعود لإحياء مشروعها الأصلي. وقد تتأجل هذه العودة لمرحلة أخرى، لأنها مازالت في حاجة لربح الوقت لكي تعزز موقعها في السلطة كما أنها حريصة بألا تثير تحفظ الجهات المانحة التي لها دور محدد في الوضع السياسي بتونس وأن تتمكن من تطويع اليمين الإسلامي المتطرف وإدخاله بيت الطاعة قبل أن تمرّ إلى إقامة "الدولة الإسلامية" بمنظورها الخاص.        
ب ـ مصيدة الطهر والفساد
أمام غياب النقاش حول برامج المرشحين للانتخابات وبصورة خاصة الرئاسية في طوريها الأول والثاني حضر التوظيف وغسل الأدمغة عبر الشبكة في المجموعات المغلقة والتبسيطية المطلقة التي تختزل الواقع والقضايا المصيرية للبلاد والعباد في كلمات موجزة حاسمة وكأنّها الحقيقة السرمدية. بمثل هذا الأسلوب أوجدت مكاتب التفكير، التي نجهل إن كانت وطنية أو عالمية، ثنائية قابلت بين الطهر والفساد وجسدتها في التقابل بين مرشحين، الأول يمثل الطهر كلّه والثاني يمثل الفساد كلّه. ولا نستبعد أن تكون هذه الثنائية مبرمجة، خاصة إذا علمنا أن حركة النهضة لم تدفع بأصواتها كاملة في سلة مرشحها عبد الفتاح مورو في الطور الأول للرئاسية بالإضافة إلى أنها كانت حملة باهتة تفتقد كل شيء يؤهلها بأن تكون جديرة بالحزب الأول في البلاد الذي يراهن على الرئاسات الثلاثة "كاستحقاق طبيعي لقيادة المرحلة المقبلة"، بل جعلته يتقاسمها مع قيس سعيد أساسا. وبذلك تكون قد برمجت لمرشحها الرسمي هزيمة مشرفة لتصعيد عصفورها النادر، خاصة إذا علمنا أنه كان قد تقابل مع راشد الغنوشي 30 مرّة قبل أن يقدّم ترشحه. وليس هذا فقط بل إن المقارنة بين الأصوات التي تحصل عليها عبد الفتاح مورو في الطور الأول من الرئاسية وبين الأصوات التي جمعتها حركة النهضة في التشريعية نجد أنه يناهز 125 ألف صوت لفائدة الثانية، ممّا يؤكد ما ذهبنا إليه بشأن توزيع أصواتها بين مرشحها الرسمي وعصفورها النادر والمتطرفين من قادتها وأبنائها. وإلى جانب ذلك تحفظ قيس سعيد تجاه وسائل الإعلام والتزم بعدم الكشف عن هويته وبرنامجه ورؤيته لمعالجة القضايا الأساسية وأضفى على عدم ظهوره طابع التعفف حتى أنه صرّح بعدم قيامه بحملته الانتخابية وبأنه لن يقدم وعودا كاذبة ولم يتلق دعما من من أي كان ناهيكم أنه دفع فقط 50 دينارا لفتح حساب بنكي وتكفّلت تبرعات الشباب المتطوع بالعشرة ملايين، وإذا بعلامة الطهر والتعفف يعلو نجمها مجسدا في شخصه. وبالمقابل كانت حركة النهضة شريك يوسف الشاهد في ملاحقة نبيل القروي بتحريك قضية التهرب الجبائي وتبييض الأموال الموضوعة أمام القضاء منذ 2016 وكذلك الشأن بالنسبة لملف نسمة مع "الهايكا". بحيث تحرّكت هذه القضايا بعد أن عطّل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي مرور التنقيحات التي أدخلت على القانون الانتخابي والتي قدت على مقاس حزبي حركة النهضة و"تحيا تونس" لإزاحة منافسيهما الجديين من السباق الرئاسي (نبيل القروي وعبير موسي وكان من المفترض أن تتقدم "عيش تونسي" بمرشح لها في هذا السباق) وبعد أن قبلت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بترشح نبيل القروي للرئاسة. وعلى الرغم من أن نجمه كان في سباق الصعود مع قيس سعيد فقد تراجع إلى المرتبة الثانية بمسافات يصعب عليه التقليص منها خاصة لمّا ألصقت به شبهة الفساد وتكثفت حتى أنه أصبح رمزه المطلق. فأصبح قيس سعيد العلامة المميزة للطهر في تباين تام مع بنيل القروي تماما حامل شبهة الفساد، كما كان إيقاف شفيق جراية العلامة المميزة لمقاومة الفساد، بينما الحقيقة أن الفساد منظومة كاملة لا ينبغي حصر مقاومتها في بعض الأشخاص الشيء الذي يحولها إلى شعار باهة وآلية لتصفية الحسابات والتغطية على الفساد ذاته بما فيه الكائن لدى الحاكمين.   
هكذا وضعت أسس هذه الثنائية وشيئا فشيء أصبحت تيارا جارفا حمل معه أحزابا تجهد نفسها للوصل إلى السلطة في أسرع وقت ممكن وتخاف الابتعاد عنها وأخرى ألصقت بها شبهات فساد ومكر تريد أن تتطهر وجمهورا حالما بحاكم نظيف عفيف عادل جمع حوالي الثلاثة ملايين ناخب، وفي الجهة المقابلة تجمع حولي المليون ناخب يمثل جمهور الذين عضهم الفقر أو يكاد، ومن بين الذين يحلمون بالعدل الاجتماعي، وجمهور الذين يمقتون الظلم والقهر ويتعاطفون مع من يعتقدون أنه تعرّض لهما حتى وإن ألصقت به شبهة فساد، وأحزاب تعارض رمز القطب الآخر تحسبا من خطر التوجهات غير المعلنة التي يشير إليها محيطه المباشر وأحزاب أخرى تحمل من الماضي التعارض القديم الذي قابل الاستقطاب الثنائي بين الحركة الإسلامية والحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي).
تلك هي الثنائية التي أخذت في سياقها جمهورا في هذا الاتجاه أو ذاك بشكل أصبح على أي كان إجراء أي حوار مع هذا الطرف أو ذاك من القطبين لأنه تمّ وضعنا في دائرة الحقائق المطلقة التي يختزلها شعار أو كلمة من هنا أو هناك. وليس غريبا أن يتفاجأ الرأي العام بردات فعل الفاعلين من القطب الأول بعنف مواجهتهم للإعلام والإعلاميين الذين يعارضونهم وتجلى ذلك بوضوح ليلة الإعلان عن النتائج التقريبية عن طريق شركات سبر الآراء في الاعتداء على صحفيي وصحفيات قناة الحوار التونسي وفي الوعد والعيد الذي كالوه والتهديد بالقتل والتفجير والتجييش والحملات الفايسبوكية التي تحمل نسبة من العنف تشبه الفترة السابقة لاغتيال شكري بالعيد وعمليات الاغتيال التي استهدفت أمني في بنزرت وسائح فرنسي واعتداء بالعنف على عسكري في نفس المدينة والاعتداء بالعنف على ممثلين لقلب تونس في جهات مختلفة ومناصرين لترشح نبيل القروي.    
ج ـ نتائج أربع انتخابات تؤكد أن الشعب التونسي محافظ في الجوهر
لقد أسفرت نتائج الأربع انتخابات على فوز حركة النهضة ومن ورائها الحركة الإسلامية في التأسيسية والبلدية والتشريعية وفي الرئاسية اليوم من خلال دعمها لـ"عصفورها النادر" ممّا يعني أن نواة أصليّة ثابتة تتراوح بين الخمس مائة ألف مواطن والمليون، إسلامية وذات ميولات إسلامية (بمعنى الإسلام السياسي)، تلقي بظلالها على المجتمع التونسي وتضفي عليه طابع محافظا أصبح يميل أكثر فأكثر إلى التعبير الديني الأكثر تصلبا وتشددا جراء مرحلة الإرتداد التي شهدها لما يزيد عن ربع قرن. هذا إلى جانب أن في الجزء الحداثي من المجتمع يمثل المحافظون فيه الوجه الغالب الذي وإن كان يختلف مع الجزء الإسلامي(بمعنى الإسلام السياسي) في جوانب عديدة فهو يتقارب معه في أخرى. ممّا يدعو إلى القول بأن انتصار الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في رئاسية 2014 وانتصار "نداء تونس" في تشريعية 2014 لعبت فيهما عوامل ظرفية تتعلق بتفاقم خوف التونسيين والتونسيات من مخاطر التفريط في مكاسبهم الحضارية والاجتماعية والثقافية وبصورة خاصة أمام الاغتيالات السياسية والعمل الارهابي الذي استهدف مؤسستي الجيش والأمن. وهو وضع تمّ استغلاله انتخابية وسهل الفوز المزدوج للحداثيين الذي لم يكن سوى فوز ظرفي إذ تفكك حزب نداء تونس وانعزل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وظلّت حركة النهضة الحزب الوحيد الذي يحرك كل خيوط اللعبة.
وعلى هذا الأساس نخلص إلى القول بأن الإرث الحداثي للجمهورية الأولى لم يكن كافيا لحماية المجتمع من الارتداد وأن الصراع بين الحداثة والمحافظة، رغم تقدمه، مزال لم يحسم في جوهره وأن أطوارا أخرى صعبة مازالت في الطريق. لكن المعضلة الكبرى تكمن في أن القوى المحافظة متماسكة وشديدة البأس وعلى استعداد لاتباع كل الأساليب والسبل للعودة بالمجتمع إلى ماضيه السحيق بينما القوى الجمهورية الحداثية التقدمية مشتتة وعاجزة على أن تتحول إلى قوة فاعلة تدرك مهمتها الرئيسية والأهداف التي تعمل من أجل تحقيقها. إنها لم تتحمل مسؤوليتها في ذلك فقد كان الحبيب بورقيبة هو الذي عوضها وخاض الصراع ضد الفكر المحافظ باسمها وتواصل تواكلها مع بن علي الذي استغل ذلك الصراع لفرض نظام حكم دكتاتوري. وظلت القوى الجمهورية الحداثية تبحث عن ذاتها وكأنها في متاهة، مرّة تناهض حركة النهضة والحركة الإسلامية بشأن مشروعها وأخرى تتوافق وتحكم معها وتنظم الجبهات، وبذلك ضيعت مشروعها.                  
د ـ كانت "أفسد" انتخابات
د1 ـ كان المال السياسي سيّدا
غالبا ما كنت أتجنب استعمال أفعل التفضيل في الانتخابات، لكن ما تجمّع لدي من معلومات من كل حدب وصوب تبين لي أن المال السياسي هو الذي حسم الأمر في صعود "الكناترية" و"الدواعش" وأئمة المساجد المعروفين بتطرفهم وذوي شبهات الفساد و"السياح الحزبيين" ورجال الأعمال بعدد ملفت، قبلت باستعماله للحكم على الانتخابات بأنها "أفسد انتخابات" لأنها كانت بمثابة سوق يباع فيها ويشترى الناخب ببعض الدينارات أحيانا وبأعلى سعر أحيانا أخرى. لقد كانت الانتخابات في العهدين السابقين بمثابة تزكية بحيث لم يكن للمواطن صوت يدلي به لأنه لا سلطة له عليه أمام قوة الدولة والحزب الحاكم، لكنها  أصبحت اليوم سوقا تباع فيها الأصوات وتشترى لفائدة قائمة أو حزب ما، ممّا يعني أن المواطن لا سلطة له على صوته باعتباره خاضع لقانون السوق. فالقاهرون والدافعون يتعاملون مع المواطن بمثابة عبد لا حول ولا قوة له. لنقلها بوضوح بأن المعنى الحقيقي لهذا السلوك هو أن الانتخابات لا تعبّر عن إرادة الشعب الحقيقية بل عن إرادته المزيفة التي هي في النهاية إرادة قامعوه ومن دفعوا له.
 أنا لا ألوم الناخب لمّا خضع تحت السياط ولا على بيع صوته من أجل لقمة فالحاجة أم الكبائر. وأفهم ما يقوم به القامعين والدافعين لأنهم واعون بمصالحهم ويدافعون عنها بكل الأشكال لذلك قاومتهم طيلة حياتي وسأظل أدعوا الشعب لمقاومتهم. وألوم كل اللوم على نفسي وعلى أنفسنا، نحن من ندعي تملك الوعي السياسي الطليعي، نحن النخب النيّرة الذين لم نتحمّل المسؤولية في الدفاع عن الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية ولم نتوصل إلى بناء القوة المؤتمنة عليها بفعل الصراعات الفئوية التي جعلتنا نعيد المسار الذي اتبعته التجربة التركية منذ أن تشتت القوى العلمانية بفعل صراعها المقيت على السلطة وتركت الطريق سالكة أمام أرودغان وحزبه للمسك بدواليب الدولة والفوز في الانتخابات ومراجعة الدستور وتصفية مكتسبات المجتمع التركي وتسليط القمع الوحشي على كل الخصوم بما في ذلك التجويع والتعذيب والقتل والسجن والمحاكمات الصورية واستغلال الانقلاب المفبرك للقيام بأوسع تصفية للقوى الجمهورية وقعت في التاريخ التركي الحديث شملت الجيش والأمن والقضاء والإدارة والتعليم والصحة والثقافة والنقابة والأقليات القومية (الأكراد)...إلخ.
إن مسألة سيادة المال السياسي في الانتخابات التي لا يريد جلّ المثقفين والإعلاميين والساسة الحديث عنها، هي في الحقيقة والواقع سيادة طبقة المال، الفاسد وغير الفاسد، أي الطبقة البورجوازية على البرلمان عن طريق ممثليها المباشرين والسياسيين. وهي حقيقة يمكن التثبت منها برصد عدد رجال الأعمال المنتخبين والأحزاب الغنية التي حصلت على مقاعدها بما في ذلك باستعمال عشرات الملايين لشراء الضمائر زيادة على ما أنفقته في الحملة الانتخابية.
وخلاصة القول فإن البرلمان الحالي بتمثيليته الحالية يمثل الشعب شكليا لأنه ذهب إلى مكاتب الاقتراع وصوت لمن فازوا في الانتخابات، لكنه في الحقيقة والواقع يمثل طبقة رأس المال أي البورجوازية. ولكي يجد الشعب مكانه في المجلس ينبغي عليه أن يتعلّم التصويت لفائدة ممثليه الفعليين الذين سيتولون الدفاع عنه وعن مصالحه، لكي يتحول إلى ميدان يتقابل فيه مشروعان للتنمية والدولة والمجتمع، واحد يدافع عن الشعب والآخر عن البورجوازية. ذاك هو الصراع الطبقي، في صيغة من صيغه، الذي لم نبتدعه بل كان موجودا منذ أن خرج المجتمع الإنساني من طور الوحشية وأصبحت تديره الاجتماعات العامة لكل جماعة أثنية أو قبلية أو مدينية. لقد عرفت في أثينا بـ"الأغورا" أين كان يتناظر فيها خطباء الأحرار من السكان مع مالكي العبيد والتجار الكبار. ثم أخذت في روما شكل مجالس للشعب أو للعشائر التي كانت تضم ممثلين عن الشعب أو العشائر في كل مدينة لتمثل السلطة المحلية، وكان يتناظر فيها ممثلو الشعب الأحرار مع ممثلي الأرستوقراطية، يعلوها مجلس الشيوخ الذي يمثل السلطة المركزية وكان يضم الأثرياء والأعيان وممثلي المجالس الشعبية والقناصل وقادة الجيش والإمبراطور. وظل الصراع على مركزة السلطة قائما بين الإمبراطور ومجلس الشيوخ إلى أن تخلى الثاني طوعا للأول عن سلطته ليمركزها يوليوس قيصر بين يديه ويدخل بروما مرحلة جديدة في نظام الحكم فيها عرفت بمرحلة الدكتاتورية. وانتهى الأمر بالمجالس إلى دخول مرحلة التمثيل البرلماني، مع الثورة البورجوازية وانتقال المجتمعات من الاقطاعية إلى الرأسمالية، الذي شهد ثلاثة أشكال، الأمريكي والفرنسي والبريطاني، ويمكن القول أن الشكل الفرنسي هو الأكثر ديمقراطية باعتباره يسمح بتمثيل أوسع للمواطنين ومن ثمة للشعب. وكانت البرلمانات بمختلف أشكالها تقابل اليسار باليمين والشعب برأس المال حول التشريعات والموازنات والمشاريع والقرارات وهو ما نعبّر عنه بالصراع الطبقي.
أمّا اشكال التمثيل الشعبية والسوفياتية فهي لم تتجاوز التمثيل البرلماني سوى وهميّا بحيث أصبحت لسان حال السلطة المركزية وكل من عارضها يعتبر معارضا للسلطة الشعبية وبالتالي معاديا للشعب، وهكذا نجد أنفسنا أمام نمط يتخلى فيه المجلس عن سلطته المفترضة لصالح حاكم فننتقل إلى الصيغة الدكتاتورية على شاكلة نظام حكم يوليوس قيصر. لذلك فإن نظام المجالس و"اللجان الثورية" و"السوفياتات" لم تكن ورقة التوت التي يغطي بها نظام حكم بورجوازية الدولة طبيعته الدكتاتورية.
د2 ـ "اللي سرق عظمة يسرق ثور"
اعتمدت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تقييم التجاوزات الحاصلة في الحملات الانتخابية على مدى تأثيرها على ترتيب الفائزين عند التصريح بالنتائج، فإن غيّرته تصبح جرائم انتخابية تنجرّ عنها العقوبات المنصوص عليها في القانون وإن لم تغيّره تفقد صفة الجريمة الانتخابية ولا ينجرّ عنها أي عقاب. وهذا التأويل الذي اختارته الهيئة العليا الذي فرضته عليها إكراهات السياسة لا يأخلق الانتخابات باعتبارها قمّة العملية السياسية التي يختار بواسطتها الشعب من يمثله ومن يحكمه بل تسامحت مع الجريمة، سواء أكانت شراء ضمائر أو تزويرا أو خرقا للإجراءات القانونية أو للقانون ذاته، إذا لم تغيّر النتائج. ومثل هذا التأويل كمثل القاضي الذي يحكم في شأن السرقة بصورة مختلفة، أن يعتبر سرقة ثور جريمة بينما سرقة بيضة ليست جريمة. وفي هذا الصدد أذكر حكاية شعبية تقول أن شابا كان يسرق من حين لآخر بيضة يقدمها لأمه فتفرح به. ولما اشتد عوده وكبر سرق ثورا فتمّ إيقافه وحكم عليه القاضي بالسجن، التفت لأمه الباكية وقال لها:"إذا كنت تحبيني راكي من أول عظمة ضربتيني". والدرس هو أن السكوت عن "الجرائم الصغيرة" يحوّلها إلى مرجع قانوني يشيع الجريمة ليضفي الفساد طابعه على الانتخابات فتفسد. ونرجو من الهيئة العليا أن تبذل جهدا في أخلقة الانتخابات ومن خلالها السياسة بصورة عامة بأن تتعامل مع الجرائم الانتخابية حسب قاعدة: "اللي سرق عظمة يسرق ثور".
د3 ـ شيطنة الأحزاب السياسية والقائمات المستقلة مرض عضال أصاب الانتخابات
انطلقت شيطنة الأحزاب منذ 14 جانفي لمّا بدأ يروّج بأن الشباب هو من قام بالثورة وبأن الأحزاب السياسية كانت غائبة ففاجأتها لذلك لم تكن فاعلة فيها والحقيقة أن الأحزاب اليسارية والديمقراطية والتقدمية وكذلك الشأن بالنسبة للحركة النقابية والطلابية ناضلت طيلة عقود ضد نظام الحكم فتعرضت للسجن والتعذيب والمنفى وضحى عدد منها بحياته وتلتها الحركة الإسلامية التي طلبت السلطة مباشرة ودخلت في صراع فاصل مع التجمع الدستوري الديمقراطي ونظامه، إلى أن انتهى الأمر بتخلي أمريكا عن الرئيس الراحل بن علي فحرّكت خيوطها واستغلت حادثة أليمة حرق فيها طارق البوعزيزي نفسه. احتج النقابيون في سيدي بوزيد المدينة وتتالت تحركات الاحتجاج والمساندة في عدد من مدن سيدي بوزيد والمدن التونسية فأعلنت قناة الجزيرة عن الثورة الزاحفة وتلتها قناة فرنسا24. لقد كان النقابيين في كل مكان مؤطرين لهذا الحراك، وكانوا في أغلبهم ينتمون لأحزاب يسارية اشتراكية ولمجموعات قومية. وزيادة على ذلك فقد شارك جلّها في تنظيم التحركات وقيادتها، رغم النقد الذي كان لبعضها حول أعمال عدّة. ومن جهة أخرى كانت جلّ الحركة الإسلامية غائبة عن المشهد. وهكذا فإن الشباب لم ينهض بمفرده خارج هذا الإطار بل كان فاعلا في سياق حركة نظمها وقادها النقابيون انطلاقا من دور الاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب السياسية القانونية وغير القانونية على قلتها، ونشط الشباب بصورة أساسية على الفايسبوك باستعمال البروكسي لترويج الأخبار حول التحركات وتنظيمها وتشدد المواجهة مع قوات الأمن وتوسعها.
إن تاريخ الثروات في العالم التي غيّرت النظم القائمة يدل على أن الشباب محركها الرئيسي سواء في ثورات العبيد أو الفلاحين أو العمال أو الثورات الوطنية وكان دائما تحت قيادات سياسية وعسكرية وميدانية أو ضمنها، بينما الثورات القطاعية بإمكانها أن تكون شبابية صرفة أو عمالية أو فلاحية، كما هو الشأن لثورة الشباب في 1968. لذلك يصبح من قبيل الديماغوجية الحديث عن ثورة شبابية والحال أن انتقالا للجمهورية من الديكتاتورية إلى الديمقراطية حصل بما يعني أن قوى عديدة كانت فاعلة فية من فوق ومن تحت من الداخل والخارج. 
وعلى أساس هذا الاعتقاد الشائع ألقيت مسؤولية الأحزاب الحاكمة بشأن الوعود التي قطعتها أمام الناخبين في كل الاستحقاقات وبشأن البرامج التي وضعتها والتي ألحقت أضرارا فادحة بالاقتصاد الوطني وبقفة المواطن، على جميع الأحزاب بقطع النظر عن برامجها وعن درجة مسؤوليتها في الوضع العام. فنزلت اللعنة على جميع الأحزاب لكن المتضرر الأكبر من هذه الشيطنة هي الأحزاب الصغيرة أو الأحزاب الناشئة لأن قاعدتها الاجتماعية والانتخابية غير مستقرة بينما قاعدة الأحزاب الكبيرة واسعة ومستقرة ولم تتضرر بهذه الحملة. ولعبت جمعية "عيش تونسي" دورا شنيعا في التهجم على الأحزاب السياسية في السلطة وفي المعارضة وشيطنتها وكأنّها تريد تعويض الأحزاب وبرامجها بـ"وثيقة التوانسة" التي أمضى عليها ما يناهز عن المليون مواطن وتقدم على أنها البرنامج الذي ستعمل على تنفيذه "إذا التوانسة حبو" أن تتحوّل إلى حزب. وكأننا أمام "الشعب يريد" بصيغة أخرى. وقد استعملت هذه الجمعية المال السياسي بشكل فاضح في جميع أوجه نشاطها بما في ذلك في الحملة الانتخابية لقائماتها المستقلة. وهكذا ترذّلت السياسة وترذل السياسيون.
ولمزيد تفكيك الأحزاب والحياة السياسية اعتمدت الأحزاب الكبيرة على القانون الانتخابي، القائم على التمثيلية النسبية مع أكبر البقايا، لتقسيم القاعدة الانتخابية بالقائمات المستقلة التي هي في الأصل سعي لتمكين المواطنين الرافضين الانتماء للأحزاب السياسية من الترشح والتعبير عن آرائهم ومقترحاتهم في المجلس النيابي. غير أنها استغلت هذا الحق الطبيعي لتدفع بأعداد من أعضائها الغاضبين وغير الغاضبين لتشكيل قائمات مستقلة، حتى أن عددها فاق بكثير القائمات الحزبية وتكون بذلك حققت هدفين: يتمثل الأوّل في أنها قسمت القاعدة الانتخابية بحيث يصبح من الصعب على الأحزاب الصغيرة والفقيرة أن تجد قاعدة أوسع يمكن أن تأخذ منها أصواتا وتربك الناخب عند الاختيار (نظرا لكثرة القائمات) فيلتجئ طبيعيا لمن هو معروف كفاية والذي يكون من بين الأحزاب الكبيرة التي تتصدر المشهد الإعلامي والسياسي.
أما الثاني فيتمثل في جعل المواطن يعتقد أن الانتماء للأحزاب السياسية غير مجدي إذ بإمكانه الصعود للبرلمان للدفاع عما يراه مصلحة الشعب والوطن ليسود الاعتقاد أن الحياة السياسية يمكنها أن تدار خارج إطار الأحزاب فتتضرر الأحزاب الصغيرة لتقلص عدد النشطاء السياسيين غير المنتظمين الذين يمكن لهم الالتحاق بهذا الحزب أو ذاك للتقارب في التصورات والبرامج. في حين أن الواقع يؤكد بأن البرلمان، وهو قلب الحياة السياسية في ظل الديمقراطية، يدار في إطار كتل توزع رئاستها بحسب عدد المقاعد التي يحوز عليها كل حزب. وبطبيعة الحال أن يكون للأحزاب الكبيرة نصيب الأسد فيها وبذلك يصبح ممكنا لها التحكم في مكتب البرلمان ولجانه وبالتالي في البرلمان وفي الحكومة. ومن ثمّة يصبح الصوت المستقل هامشيا ويظل كذلك إلى نهاية العهدة أو يدخل كتلة من الكتل وحينها يفقد استقلاليته.
4 ـ الفوضوية أرضية ملائمة لسيطرة اليمين واليمين المتطرف الديني على الدولة
نبدأ أولا بوضع النقاط على الأحرف بشأن الانتخابات بالقول بأن نتائجها تمثل التعبير الشكلي عن إرادة الشعب، وعلى هذا الأساس نقبل بها ونتعامل معها كحقيقة واقعة، بقطع النظر عن تحفظاتنا حولها وتبايناتنا مع الفائزين وأطروحاتهم ومشاريعهم ومواقفهم السياسية التي نقف ضدها. لكن أهم مسألة مطروحة على بساط البحث هي كيف أمكن للتيارات اليمينية واليمينية المتطرفة الدينية وضع يدها على السلطة؟ إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتواصلة منذ 2011 والتي لم تجد طريقها إلى الحلّ ولم يشهد المجتمع استقراره كي يوجّه قواه إلى العمل وإنتاج الثروة، هي التي دفعت بفئات واسعة من الشعب إلى اليأس حتى أنها أصبحت تتبرم من الحرية والسياسة والسياسيين وتترك المجال للقوى اليمينية الإسلامية المتطرفة للسيطرة على مساحات واسعة من فضاءات الحرية لإخضاع المواطنين لها عنوة، وبصورة خاصة بعد أن كانت واجهتها في الشارع  خلال سنوات 2011 و2012 و2013 بالمسيرات والتجمعات والاعتصامات لمّا كانت تحاول فرض سلطانها عليها في محطات عديدة مثل غزوة "المنقالة" (مارس 2012) واعتصام التلفزة (مارس 2012) ومواجهات 9 أفريل 2012 ومؤتمر أنصار الشريعة (ماي 2012) وحملة إكبس (أوت ـ سبتمبر 2012) وأحداث الرّش (27 نوفمبر 2012) والهجوم على الاتحاد العام التونسي للشغل (4 ديسمبر 2012)، وأجبرتها على التراجع في النصف الأول من 2013، وبصورة خاصة بعد اغتيالي بلعيد والبراهمي (6 فيفري 2013 و25 جويلية 2013) واعتصام الرحيل لمّا أخذ ميزان القوى السياسي طريقه إلى التعديل ولمّا وقع تنظيم الحوار الوطني بإشراف الرباعي للخروج من الأزمة وبدأ الإعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية. لكن سياسة الوفاق التي أعادت حركة النهضة إلى السلطة وتفكك حزب "النداء" وتعطلت الجبهة الشعبية عن الفعل المعارض بصورة بناءة وانتهى بانقسامها، دبّ اليأس في الأوساط الشعبية فوجدت قوى التطرف الدينية الإمكانية متاحة لاحتلال الساحات التي تركتها السلطة وتركتها القوى الديمقراطية واليسارية بتشتتها، مرغمة أو بإرادة صريحة منها، لفرض منطقها الاستبدادي على الشعب مباشرة وللتسلل إلى مراكز القرار في السلطة. وقد تمكنت من زرع عيونها من بين إطارات وزارة الداخلية ووزارة العدل وغيرها من مؤسسات الدولة وأجهزتها.
وها هي ذا تعود اليوم باسم " العودة للمسار الثوري" فاستغلت الارتباك الحاصل في السلطة وفي الأوساط الجمهورية عند رحيل الرئيس الباجي قايد السبسي وأمام المناورات السياسية الكبرى التي قامت بها حركة النهضة لاكتساح المجالات التي تركتها السلطة جراء انشغال رئيس الحكومة بمشوار الرئاسة والعمل على ضمان تزكية حركة النهضة. ولا بد من القول بأنها وبالإشراف المباشر لراشد الغنوشي أعدت بصورة جيدة لمشهد انتخابي يسمح لها بالتحكم في الرئاسات الثلاثة وببسط يدها نهائيا على الدولة وإزاحة كل منافسيها. ناهيكم أنها أخذت احتياطاتها لانفلات "ائتلاف الكرامة" على أقصى يمينها بحيث تركت له "حرية المبادرة" بأن يمدّ اليد لأنصار الشريعة و"الروابط" و"حزب الرحمة" وحتى لحزب التحرير الإسلامي. وتركت المساحات اللازمة لهذه الجماعات كي تستغل المشروع المجالسي الهلامي الذي عرضه قيس سعيد بخطاب غارق في الغموض لتكتسح الفضاءات من جديد. وإذا بها عادت لتحيي مربع العنف الذي خلنا أن صفحته طويت بدون رجعة فاعتدت على البعض من ممثلي "قلب تونس" وسحلت آخر رمته بتهمة توزيع "الفلوس" وتهجّمت على الصحفيين ودعت إلى قتلهم وإقامة الحد عليهم وبصورة خاصة صحفيي قناتي نسمة والحوار التونسي والتحريض على غلقهما. وقد كتب أحد المنتمين لهذه الجماعات على الفايسبوك معبرا عن استعداده لتفجير نفسه في قناة الحوار التونسي إذا ما تلقى الضوء الأخضر لذلك. كما حرّضت على ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل وجيشت المواطنين في محطتي رادس وبرشلونة للتشهير والتنديد به. وأطلقت العنان لجيشها الالكتروني لهتك الأعراض وكيل التهديد والوعيد بدون حساب. وزيادة على ذلك فقد حمّل عدد من الناطقين باسم هذه الجماعات الرئيس المنتخب قيس سعيد مهمات عاجلة مباشرة من بينها غلق المؤسستين الإعلاميتين ومحاكمة صحفييها وضرب الاتحاد العام التونسي للشغل ليكف عن "الشغب وتعطيل الانتاج" و"حطان العصا في العجلة". واعتبر رضا بلحاج أحد رموز حزب التحرير الإسلامي، في تسجيل مصوّر له، أن الظروف مناسبة لإقامة الخلافة الإسلامية، مؤكدا بذلك ما صرّح به في السابق بأن الخلافة آتية أحب من أحب وكره من كره.
إن الخطير في الوضع هو أنه، زيادة على التصور الفوضوي لإعادة تنظيم الدولة والمجتمع، فإن ظهور أزمة في تكوين الحكومة أو تصادم بين الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب بما يشبه التزكية أو البيعة والبرلمان المنتخب بتمثيلية أقل منه بكثير زيادة على أن  أغلب النواب حصلوا على مقاعدهم بأكبر البقايا أو بينه وبين رئيس الحكومة الحاكم الفعلي للبلاد أو المنتخب في دائرة واحدة، في أحسن الحالات، وغير المنتخب مباشرة من الشعب. وهو وضع من شأنها أن يثير توترات قد تتحول إلى تناقضات حادة، رغم يقيننا من أن راشد الغنوشي لم يترك لا شاردة ولا واردة مع قيس سعيد المرشح للرئاسة في اللقاءات التي جمعته به بما فيها كيفية معالجة الخلافات بين الرئاسات الثلاثة. ومع ذلك قد تجري الرياح وتتفاقم الخلافات فتنجر عنها حالة من الفوضى التي قد تستغلها هذه الجماعات المدعومة من جناح من أجنحة النهضة لتربك أجهزة الدولة وتزرع الرعب في المجتمع وهو نذير بانتصاف الفاشية. هذا مع العلم أن حركة النهضة لا تسمح للواقفين على أقصى يمينها من الحركة الإسلامية بأن يفتك منها ولو شبرا من السلطة لأنها مستعدة للتصرف معها كما فعلت مع أنصار الشريعة لمّا حاولوا ليّ ذراعها. لكن هناك زعامات في حركة النهضة تحمل نفس التصورات والجماعة، ظهرت بصورة خاصة في تصريحات اللوز والهاروني وتدوينات نورالدين البحيري، قد تسمح في أوضاع بعينها من انتصاب فريق فاشي في السلطة وتجعل منه أمرا ممكنا واقعيا، حين تتخلى بعض الكتل المعارضة عن "سلطتها" لفائدة الكتلة الغالبة ولرئاسة البرلمان ويتخلى البرلمان ورئاسته لرئيس الحكومة فتتمركز السلطة بين يديه ليتحاصر الرئيس المنتخب فيصبح صوريا. لكن هل يمكن لرئيس الدولة المنتخب بما يشبه البيعة أن يقبل بالحصار والتهميش مقارنة برئاسة الحكومة ورئيس البرلمان ويعلو بنفسه ليكون ممثلا للشعب ويتخلى عن عقائده الخاصة وحزبيته المتشكلة في الجماعات الماكثة حوله رغم اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية والعقائدية؟ تلك هي مسألة نتابع تطوراتها في المستقبل.
5 ـ كيف فرضت الانتخابات إعادة صياغة الساحة السياسية؟
كنّا تابعنا تفكك العديد من الأحزاب والتجمعات السياسية وصعود أخرى قبل الانتخابات وأثنائها بحيث أزيح منها من أزيح من التمثيلية النيابية واحتلّ موقعه في البرلمان من احتل. وبما أن البرلمان أصبح مدار السياسة في ظل الديمقراطية فإن من بفوز بمقعد يأخذ مكانه في الساحة السياسية وفي الإعلام ويناقش التركيبة الحكومية والموازنة وكل القضايا تقريبا ومن يفقده أو من يفشل في حوزه لا يناقش هذه القضايا إلا عرضا ويصبح هامشيا على الحياة السياسية.
لقد تعلمنا في ظل الدكتاتورية أن نفتك حصتنا من العناية بالشأن العام وبالقضايا التي تهم الشعب والوطن والدولة والمجتمع رغم أنف الحاكم القاهر والتنصنيفات التي تفرضها الأعراف السياسية، تعلمنا أن نبلغ رأينا للشعب بالمنشور والكتاب والخطاب والتظاهر والنشاط الثقافي والدعاية للفكر والسياسة والبرنامج في كل المجالات. واليوم أصبحت توجد أمامنا وسائل اتصال أوسع وأسرع بإمكانها أن تعادل أو تفوق كافة وسائل الإعلام السمعي البصري، ناهيكم أن جيوشا إلكتونية أصبحت تبث الخوف والرعب في النفوس تهدد الجميع في كل شيء. لكننا فشلنا في توظيفها على الوجه الأفضل في حين أبدع الإسلام السياسي في ذلك وبصورة خاصة الشق الإرهابي منه.
لذلك يمكن أن نستخلص أن الحياة السياسية يمكنها أن تشمل مجالات متعددة بحيث إن خسر فريق في مجال بإمكانه أن يحسّن وضعه في مجالات أخرى ويعود ليفتك موقعه في الفضاءات التي غادرها ويمكن لنا أن نسترشد بتجربة المتطوعين الذين رافقوا صعود الرئيس المنتخب قيس سعيد وتجربة حركة الشعب التي دخلت بنائب للبرلمان واليوم لها 15 نائب وكذلك الشأن بالنسبة للتيار الديمقراطي، وبإمكاننا أن نسترشد من التجربة السلبية لحزبي المؤتمر والتكتل وتجربة العريضة الشعبية والجبهة الشعبية بحيث كان لها جميعا مكانة محترمة في المجلس التأسيسي والمجلس النيابي واليوم تكاد لا تذكر، وتجربة حزب نداء تونس تحمل في طياتها أكثر من درس إذ من حزب أول في 2014 ينحدر إلى آخر الترتيب تقريبا بـ3 مقاعد بينما تراجعت حركة النهضة بالثلث في الوقت الذي تمكنت فيه من استرجاع الخارجين عن الصف تحت عناوين مختلفة. إن المسألة ذات الشأن في الموضوع هي كيفية التوصل إلى تحقيق تمثيلية برلمانية ودخول المسرح السياسي والحفاظ على المواقع وتطويرها.
وفي إطار الفعل السياسي عموما نحاول استقراء إمكانية إعادة تشكل الحياة السياسية. ونبدأ بـ
أ ـ  الحركة الإسلامية عموما:
إذا عدنا إلى متابعة ما حصلت عليه حركة النهضة في انتخابات 2011 وما تلاها إلى 2019 يمكننا القول أن الكتلة الانتخابية الثابتة للحركة الإسلامية عموما تتراوح حول المليون ناخبا، باستثناء انتخابات 2011 التأسيسية التي جلبت إليها ما يفوق عن النصف مليون صوت من الجمهور المتعاطف معها دون احتساب الأصوات التي وجهتها لحزبي المؤتمر والتكتل اللذين شكّلت بهما حكومتي "الترويكا"، بينما ظلت النواة الصلبة تحوم حول الـ500 ألف صوت، زائد أو ناقص 100 ألف بحسب خطة توجيه التصويت، وفي الحملات الكبرى يصل حجم الأصوات التي تحصل عليها إلى المليون. ممّا يعني أن الأصوات الواردة عليها بحجم قار تقريبا هي لناخبين منتظمين أو على الأقل متعاطفين مكسوبين لهذه الجماعة أو تلك من الحركة الإسلامية، فهم عموما من جمهور الحركة السلفية وحزب التحرير الإسلامي الذي لا يؤمن بالدولة الوطنية ويعمل على إقامة الخلافة وغيرهما من الجماعات، لأن حركة النهضة تمثل قيادتها السياسية وهي بصدد تعبيد الطريق أمامها لإقامة الدولة الدينية تحت مسميات مختلفة: الجمهورية الإسلامية التي تتحقق بالسبل الديمقراطية (حركة النهضة) والدولة الإسلامية (أنصار الشريعة و"الدواعش" وما شابههم) بواسطة الجهاد والخلافة الإسلامية عن طريق التسرب للأجهزة الدولة ومؤسساتها وكسب المجتمع للدعوة لها (حزب التحرير الإسلامي). لذلك أعطوها أصواتهم في اللحظات المصيرية وسمحت لهم بكسب المساحات التي يشاءون دون تجاوز الحدود المرسومة. ويأتي التفاعل بين مختلف هذه الجماعات لتذويب الفوارق بين المشاريع التي أتينا على ذكرها أو ابتلاع القيادة للبعض منها أو تطويعها.
وخلاصة القول فإن حركة النهضة ومن ورائها سائر الجماعات الإسلامية تحسم الانتخابات عموما لفائدتها بجميع الأشكال وهي تمثل منذ حكومة "الترويكا" الأولى قلب رحى السلطة وهي بصدد التحول تدريجيا إلى قلب رحى الدولة وحينها سوف تكرّس مشروعها عنوة ولا تخشى لومة لائم. ليفهم الجميع أن السلطة الآن بين يديها والدولة في الغد القريب.
ب ـ الحركة الديمقراطية و"العائلة الوسطية"
لم تتمكن الأحزاب التقليدية من الحصول على مقاعد في البرلمان وتراجع إشعاع جلّها بعد انتخابات 2014 وهي تشهد الآن انحسارا كبيرا زيادة على تفكك بعضها ولا أظن بأنها قد تتجه نحو الاندماج فيما بينها، رغم أنها قامت بذلك مع بعض القوى الأخرى ولم يعد ما يفرقها عن بعضها من حيث الأطروحات، وأذكر في هذا الشأن حزبي "التكتل" و"المسار". ولا أظن أيضا أن تتجمع في جبهة قادرة على جلب انتباه الناس لتصبح فاعلة في الحياة السياسية لأنها تعودت على ابتلاع المجموعات الصغيرة وغير المنتظمين وتوظيفهم في خدمة أهدافها الخاصة.
أما "العائلة الوسطية" فإن كل مكوناتها تعمل على أن تكون هي الجيرة بتمثيلية هذه العائلة وقيادتها وبصورة خاصة أن الانتخابات حملت البعض منها إلى مجلس النواب وهمّشت البعض الآخر الشيء الذي وضع العديد من المشاكل الجديدة على بساط البحث. لكن أهم مسألة تمثل عائقا جدّيا أمام تحولها إلى قوة فاعلة في الحياة السياسية تسمح بالعودة إلى السلطة والمحافظة على مواقعها في الدولة هي الوعي السياسي بالمشروع الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي باعتباره انتقالا بالجمهورية الأولى التي وضعها الآباء المؤسسون بزعامة الحبيب بورقيبة إلى الجمهورية الثانية وتواصلا لها في ظروف جديدة. لقد كان هذا الوعي غائبا في الانتخابات الرئاسية والتشريعية لأنها شتت صفوفها ومركز القرار فيها وتركت الدولة والجمهورية هدفا للقوى التي تعمل على إضعافهما وتفكيكهما. ولا أعتقد أنه سيقذف به في الصدور بل يأتي بالنقاش والتوضيح والبلورة. وممّا لا شك فيه أن السياسة التي ستتبعها حركة النهضة والمتحالفين معها سوف تدفع "العائلة الوسطية" إلى استقطاب بين واحد يبحث على التوافق مع حركة النهضة والثاني يتباين معها ليجد نفسه مجبر على تحمّل مسؤوليته تجاه الدولة والجمهورية وتجاه الشعب والمجتمع ليتولى الدفاع عن الانتقال الديمقراطي للجمهورية وعن الاقتصاد الوطني أمام خطر الانهيار وعن المطالب العامة للشعب. وهو استقطاب يدفع في حد ذاته إلى الوعي السياسي بالمسؤولية الوطنية التي ستجعل القطب الثاني يبحث في اتجاه الأحزاب الديمقراطية واليسارية لبناء قطب ديمقراطي اجتماعي مؤتمن على الجمهورية.
ج ـ الأحزاب اليسارية بين وحدة اليسار الاشتراكي والجبهة الجمهورية
ما من شك أن اليسار الاشتراكي كان قد لعب دورا مهما في النضال ضد الديكتاتورية وفي الانتقال الديمقراطي وأسهم بقسط كبير في المجلس التأسيسي وفي النضال في الشارع دفاعا عن الجمهورية ومكاسبها وعن الحريات والديمقراطية وعن المطالب العامة للشعب في الشغل والحرية والكرامة والمساواة. وتحمّل مسؤوليته في التصدي للإرهاب والاغتيالات السياسية وفي اعتصام الرحيل وتكوين جبهة الإنقاذ وفي الحوار الوطني ثمّ في مجلس النواب. لكن الانتخابات الرئاسية والتشريعية جردته من وجوده في المجلس ولم يحصل إلا على مقعدين يتيمين واحد لمنجي الرحوي والثاني لعدنان الحاجي. في حين لم تتمكن أحزاب أخرى من دخوله. وبذلك يمكن القول أن وجود اليسار الاشتراكي على المسرح السياسي سوف يكون هامشيا وقد يؤدي بالبعض من مكوناته إلى الاندثار. وعلى هذا الأساس يمكن لنا القول أن دوره سيظل محدود مقارنة بتاريخه النضالي وعطائه اللامحدود للوطن والشعب لأنه لم يتمكن من المحافظة على مواقعه ولم يعززها بوافدين جدد. زيادة على كونه لا يمثل قوة فاعلة أمام القوى الأخرى اعتبارا للتشتت المزمن الذي تشهده صفوفه والصراعات الفئوية التي دامت دهرا. وقد يتعمق هذا التهميش أكثر إذا لم يستخلص الدروس اللازمة من تجربته الطويلة ولم يراجع سياساته وخياراته ليجعلها تتماشى والعصر. مع العلم أنه لم يقم بذلك في اللحظات المفصلية من حياته الطويلة بحيث مكنه التاريخ ومكنته أحداث الصراع الطبقي من فرص كبرى لتجاوز هناته وليتأهل للمشاركة في السلطة على الأقل. إن معضلته الكبرى، كما سبق وإن قلنا بشأن "العائلة الوسطية"، تتمثل في ضعف وعيه السياسي كممثل للطبقة الشغيلة التي لا يمكن لها دخول المسرح السياسي صاحبة مشروع مستقل عن الطبقة السائدة اقتصاديا، طبقة رأس المال، وبأن الجمهورية الديمقراطية لن تأخذ طابعها الاجتماعي الصميم إلا إذا أصبحت شريكا ذا شأن في الدفاع عن الدولة الوطنية وعن الجمهورية. والقضية التي لم يدركها اليسار الاشتراكي أن الطبقة التي من المفروض أن يمثلها لا تعي بذاتها إلا لمّا يتحد في كيان سياسي واحد، جبهة كانت أم حزبا متعدد، مجتمع على حد أدنى سياسي طبقي ووطني فاتحا المجال لمختلف التعبيرات الفكرية والأيديولوجية كي تتواجد وتتحاور وتطور أطروحاتها. ولا أظن أن ذلك ممكنا مباشرة لأن الهوة تتسع بين مختلف المجموعات خاصة وأنها لم تجر حوارا بناء في ما بينها مع العلم المحاولات التي شهدتها فشلت لأنها تجاهلت الوجود المعقد لليسار الاشتراكي فحاولت تجاوزه بالقفز على الواقع. وقد تتوفر ظروف أنسب في المستقبل إذا ما أدركت جميع الأطراف أو جلّها بأنها تتحمل مسؤولية تواصل تبعية الشعب، في التصويت عند الانتخابات، لأحزاب رأس المال وللأحزاب العقائدية التي تعمل على إقامة نظم استبدادية باسم الدين الإسلامي، وبأن الخروج عن دائرة هذه التبعية يتطلب تحوّل اليسار الاشتراكي إلى قوة قادرة على جلب انتباه الشعب ومن ثمة الطبقة الشغيلة وذلك بوحدته في كيان سياسي واحد، حزبا أو جبهة.
هـ ـ الحركات القومية والبعثية
إذا كانت حركة الشعب قد تمكنت من تحسين وجودها في مجلس النواب فقد خسرت التيار الشعبي موقعه وكذلك الشأن بالنسبة البعث. وبقطع النظر عن التقدم والتراجع في مجلس النواب فإن ما يمكن ملاحظته هو أن استقطابا ثنائيا طبع هذه الحركات بين من تحالفت مع أحزاب يسارية لتكوين الجبهة الشعبية وبين التي مالت تجاه حركة النهضة والسلطة وشاركت مع التيار وبعض العناصر المستقلة في تكوين كتلة في مجلس النواب، وشهد الشق الأول انقساما ثانيا بانقسام الجبهة الشعبية. وهذا يؤكد أن الانقسامات شملت العائلة القومية التي لم تتشكّل في قوة إلا إذا اتحدت في تيار قومي جامع لتكون المعيّر عن الطموح القومي للشعوب العربية بما فيه الشعب التونسي وتحدد تحالفاتها إمّا مع القوى الجمهورية أو مع الجماعات الإسلامية، بما يعني أنها مطالبة بتوضيح المشروع المجتمعي الذي تناضل من أجله.       
6 ـ الجبهة الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية هي الحل
كنا بينّا كيف أن الجبهة الإسلامية غير المعلنة هي التي تلعب الدور الرئيسي في الانتخابات وفي الحياة السياسية في تونس وكيف تسير في اتجاه وضع يدها على الدولة بعد أن مسكت بالسلطة وكيف تعمل بصبر وأناة لتغيير نمطنا المجتمعي.
وكنا بينا أيضا كيف قابلتها القوى الجمهورية (الديمقراطية و"الوسطية" واليسارية والقومية) مشتتة الصفوف وليست متحدة حول مشروع جمهوري ديقراطي اجتماعي ووطني.
ولإحداث التوازن في الحياة السياسية ومنع الانحراف بالانتقال الديمقراطي عن مساره الصحيح فإن ذلك يتطلب أن تتحد جلّ قوى العائلات السياسية الأربعة في جبهة جمهورية متحدة لتشكل القوة المؤتمنة عن الجمهورية ومكاسبها، مع ترك سبل اتحاد العائلات كل على حدة تتطور حسب نسقها الخاص في الوقت الذي يجري فيه تكتيل القوى في الميدان إلى أن يتم الإعلان عن هذا الميلاد.
ذلك هو الحلّ الوحيد الممكن الذي نراه كي لا تأخذ بلادنا الطريق الإيرانية أو التركية ولا الطريق العراقية أو السورية أو اليمنية أو الليبية ولا عشرية الدم التي شهدتها الجزائر. فليتحمل كل مسؤوليته.        
انتهى


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه