الحركات الاجتماعية الجديدة

الحركات الاجتماعية الجديدة
طرح الإشكالية
يشتغل الباحثون والمفكرون في علم الاجتماع على دراسة الظواهر الاجتماعية ومحاولة الكشف العوامل التي أدت إليه وعلى توليد المصطلحات القادرة على التعبير عنها بمستوى من التكثيف يجعلها كفيلة بالدلالة عن العناصر التي تميَزها أو تميَز جانبا من جوانبه. وقد ظهرت في العشريتين الأخيرتين أو الثلاث الأخيرة مصطلحات مثل "نهاية التاريخ" و"نهاية الأيديولوجيا" و"ما بعد الحداثة" و"ما بعد الصناعة" و"نهاية عصر البروليتاريا والبدلة الزرقاء" و"عصر الميدعة ألبيضاء" و"الفوضى الخلاقة" و"الأيادي النظيفة" و"الثورة البرتقالية" و"عشرية الدم" و"الربيع العربي" و"ثورة الياسمين"و"الحركة الاجتماعية الجديد"...إلخ. وعامة ما تكون تعبيرا انتقائيا عن وجه أو بعض الأوجه وقليلا ما تكون كاشفة لجواهر الظواهر موضوع البحث والتفكير.
لقد اعتبر الكثير من الباحثين في علم الاجتماع والسياسيين مثلا أن الحركات الاجتماعية والثورية أخذت مضامين جديدة وأشكالا وصيغا لم تكن موجودة من قبل. غير أن هذه الاستخلاصات تشترك في طمس الطابع الأيديولوجي والطبقي والسياسي لهذه الحركات الاجتماعية والثورات.
انقسام المجتماعات إلى مالكين وغير مالكين هو الأصل
والحال أن تاريخ المجتمعات المكتوب والتاريخ الذي كشفت عنه الحفريات، يؤكد أنها انقسمت إلى مجموعات مالكة لوسائل الانتاج وللثروة ومجموعات لا تملك شيئا غير قوَة عملها. فقد امتلكت الأولى الماشية والأرض واستعبدت الناس في حين أن الثانية تباع وتشترى لتقوم بعمل لفائدة مالكها.
ثم حصل انقسام ثان تاريخي أحدث نقلة نوعية في حياة المجتمع الإنساني بين مالكي الأرض، أصحاب الإقطاعات، وبين الذين لا يملكون شيئا منتجو الثروة الفعليين المرتبطين بالأرض وبالاقطاعة يقومون بعمل لملك الأرض لمدة معينة مقابل الحصول على قطعة من أرض المالك يفلحونها كي يتمكنون من العيش، مع العلم أن القطعة التي يحصل عليها كل واحد منهم مرطبة بالأرض التي يملكها صاحب الاقطاعة، مع افتقاد المنتج حق مغادرتها، وهي علاقات إنتاج اقطاعية.
أما الطور الثالث فهو ذاك الذي تحررت فيه قوة العمل من العبودية التقليدية وأصبحت المجموعات الإنسانية التي شيئا غيرها تعرضها للبيع بحرية لوقت من الزمن ضروري اجتماعيا لإنتاج بضاعة تتضمن قيمة تعادل مجموع قسمين، الأول يمثل ما يقبل أجرا يسمح لها بإعادة إنتاج نفسها والمحافظة على ديمومة نسلها والثاني يقابل وقتا من العمل غير مدفوع الأجر يستحوذ عليه مالك وسائل الإنتاج يسمى بالقيمة المضافة.
ويؤطر هذا الانقسام الاجتماعي في كل مرحلة نوعية ما يسمى بعلاقات الانتاج التي تكون حسب العناصر الدالة عليها، وبصورة خاصة وسائل الانتاج ونوعية علاقتها بالجماعات غير المالكة وكيفية بيع قوة عملها، علاقات إنتاج عبودية وإقطاعية ورأسمالية.
وباختصار شديد فإن بيع قوة العمل، إن جزئيا أو كليا، لمالك وسائل الإنتاج للقيام بعمل ضروري اجتماعيا لإنتاج بضاعة تتضمن قيمة تترجم في السوق إلى ثمن عمل يكون جزءا منه مدفوع الأجر يمثل أجر العامل والجزء الثاني غير مدفوع الأجر يحتكره مالك وسائل الإنتاج يمثل الربح الذي يتحقق في السوق ويحققه المالك لمجرد أنه يملك وسائل الإنتاج. وحول الأجر والربح يجري نضال سلمي وعنيف تحدث تغييرات كمَية في وسائل الإنتاج وأساليبه الإنتاج وفي علاقات الإنتاج بتراكمها يحدث تحوَل كيفي نمرَ فيه من نمط إنتاج إلى آخر.
الحركات الاجتماعية ليست من طبيعة واحدة
تعبَر الحركات الاجتماعية وانتفاضات الفلاحين وحركات التحرر الوطني وثورات الجياع والعصيانات المدنية وعمليات تخريب وسائل الإنتاج وتدميرها والإضرابات المحدودة والعامة والاعتصامات واحتلال مواطن العمل و"الثورات" الفئوية والقطاعية والطبقية والشعبية وحتى المجتمعية وثورات العبيد، عن النقلات الكمية والكيفية التي تحدث في المجتمعات. فالثورات التي طبعت التاريخ الإنساني الحديث هي الثورات البورجوازية الفرنسية والأمريكية اللتين كانتا ثورتين عنيفتين، في حين أن الثورة الأنقليزية كانت ثورة التحولات السلمية، كانت المعبَر عن مرور المجتمع من نمط إنتاج إلى آخر. بينما الثورة الباريسية البروليتارية، لم تكن مظفرة لأنها انعزلت عن باقي الطبقة العاملة لذلك يمكن القول عنها أنها لم تحدث تحولا نوعيا في المجتمع الفرنسي وهي من صنف وقد سبقت كمونة باريس الإضرابات والتحركات العمالية العارمة للمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للطبقة العاملة التي أخذت حجم ثورات امتدت من أواخر أربعينات القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من خمسيناته، لكنها تختلف عنها في المضمون السياسي وفي الجماهيرية.
أمَا الثورة البلشفية فقد كانت ثورة مظفرة قادها الحزب البلشفي ومكونات عديدة من اليسار الثوري المسنودة بثورة الفلاحين وعصيان الجنود الذين يريدون إنهاء الحرب، والتي سبقتها ثورة فيفري 1917 ذات طبيعة بورجوازية. وقد أحدثتا هذان الثورتان تحولات كيفية في المجتمع الروسي، بينما ثورة 1905 كانت رغم أنها هزت النظام القيصري لم تحدث تحولا نوعيا في المجتمع الروسي وظلت في حدود التغييرات الكمَية وكانت المعبَر عن إرادة الفلاحين والعمال والمثقفين لتغيير الأوضاع لصالحهم. وأخذت الثورة الصينية المظفرة، التي يمكن اعتبارها ثورة فلاحين، شكل حرب شعبية طويلة الأمد انتهت بالمسيرة الكبرى بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وقد ترجمت هذه الثورة عن حصول تحوَل في المجتمع الصيني من الإقطاعية إلى الرأسمالية. وقد كانت الثورة الكوبية ثورة فلاحين ضد الاقطاعية.
بينما كانت الثورة الفيتنامية حركة تحرر وطني من الاستعمار ذات طابع اجتماعي شعبي. وكانت الثورة الجزائرية، ثورة المليون شهيد...إلخ.    
لقد كانت جميعا حركات اجتماعية عبَرت على أن من هم من تحت، أي من لا يملكون شيئا غير قوة عملهم، يعملون على تحسين أوضاعهم أو تغييرها كلَيا بالتحرر من الاستغلال والاضطهاد الطبقيين. وحققت في جل الأحيان تطورات تؤثر شيئا فشيئا على وسائل الإنتاج ومن ثمَت على نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج لتحقق المرور من نمط إلى آخر. وغالبا ما يحدث ذلك بالطرق الثورية لمَا لم يعد من هم من التحت قابلين بمواصلة العيش كما في السابق ولما يصبح من هم من فوق عاجزين على مواصلة حكمهم كما في السابق، حينها فقط تصبح الثورة ممكنة. ومن الطبيعي أن تأخذ جواهر مختلفة تعود إلى الجماعات الإنسانية التي تطبعها بطابعها وتضفي عليها هويتها الخاصة وبالتالي أيديولوجيتها وخياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي إطار النوعيات المختلفة تظهر حركات اجتماعية قطاعية أو محلية أو حول موضوع بعينه وقد تتخذ أشكالا مختلفة وقد تهدف تحسين الأوضاع ولا تهتم بالسياسة ولا تروم السلطة. والجدير بالذكر أن الاعتناء بالسياسة وبالسلطة في الحركات الاجتماعية يبدأ منذ اللحظة التي تظهر فيها التغييرات الكيفية ترسم ملامحها في الوجود الاجتماعي. لذلك يكون من المغالطة بمكان وضعها في سلة واحدة، قطاعية أو مطلبية أو جهوية لأنه لكل صنف من التحركات له فئته أو فئاته الاجتماعية أو طبقاته وله مطالبه وأهدافه الخاصة، وزيادة على أن هذا الخلط ينشئ  غموضا وضبابية في الهوية والأهداف والأشكال النضالية فهو ينزع عن الحركات الاجتماعية الجديدة كل هوية أيديولوجية وسياسية بدعوى أن عهد الأيدولوجيا قد ولى كما الثورات من "النمط القديم"، أي تلك التي كانت تقوم بها طبقة بعينها أو تحالف للطبقات التي لا تملك وسائل الإنتاج أو تملك ما لا يسمح بالاستغلال، وأن الذي قاموا بها لا ينتمون لطبقة بعينها ولا جامع إيديولوجي وسياسي بينهم ولا ينتمون لحزب بعينه بل ينتمون إلى كافة مكونات المجتمع جمعتهم شبكات التواصل الاجتماعي التي لا تحمل هوية بعينها.
الليبرالية الجديدة هي التي فقرت الشعوب ودمرت الأمم؟
إنهم أولائك الذين تضرروا من الخيارات التي فرضتها العولمة النيوليبرالية على النطاق العالمي. وتجلَت في الهجوم على ما حققته، الطبقة العاملة والموظفين والفلاحين الصغار وعموم البورجوازية الصغيرة، من مكاسب لعقود متتالية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وفرضت على البلدان الضعيفة إملاءات وضوابط مالية واقتصادية واجتماعية دمرت اقتصادياتها وفجرت أزمات المديونية وعرضت مالياتها إلى الاضطراب والتدهور وعملاتها إلى الانزلاق والتعويم بشكل عرض مخلف الطبقات والفئات الشعبية إلى مزيد تدهور أوضاعها حتى أن الطبقة الوسطى في جميع هذه البلدان انهيارا زعزع استقرارها وتفاقم الفقر على النطاق العالمي بشكل جعل ما يفوق عن المليار نسمة يعيشون فقرا مدقعا وما يقارب المليارين و800 مليون نسمة يعيشون على عتبة الفقر، بينما 10% من سكان العالم يحتكرون 86% من ثرواته و1% من الأكثر ثراء شهدوا ثرواتهم في ما بين 1996 و2016 قد ازدادت بـ60%. ألا يعدَ هذا انقسام عالمي بين الفقر والغنى؟ أليس هذا انقسام طبقي على النطاق العالمي وفي كل مجتمع؟
ومن الطبيعي أن تنتج الطبقات المتضرر من هذا التقسيم غير العادل للثروة المنتجة اجتماعية التبرير الذي تراه منطقيا بأن يصبح التملك للثورة اجتماعيا، تماما كما هو إنتاجها. وهذا التبرير هو الأيديولوجيا. ومن الطبيعي أيضا أن تضع أهدافا استراتيجية وأخرى تكتيكية وأن تتبع أساليب نضال محددة لكل مرحلة وأن تعقد تحالفات، وتلك في عمومها هي السياسة. كما أن الأقلية السائدة اقتصاديا تريد المحافظة على سيادتها تلك فتحتكر الدولة وتجعلها في خدمها باعتبارها أداة إخضاع عمومية تأخذ طابعا شرعيا. وللدفاع عن مصالحها تلتجئ الطبقات السائد إلى ممثليها السياسيين والمهنيين والنقابيين وإلى مثقفيها ووسائل الإعلام والاتصال وغيرها. لذلك تبقى الأحزاب والمنظمات والجمعيات والأيديولوجيات ما بقيت الطبقات، وما الدعاية حول نهاية الأيديولوجيا والدور السلبي للأحزاب السياسية وحتى النقابات بالنسبة للشغالين سوى عملية تحيَل لإبعاد الشعب عن السياسة عن دعم الأحزاب التي تتبنى أهدافه ووتدافع عن مصالحه حتى تتمكن الأحزاب البورجوازية من احتكار الحياة السياسية ومن إدارة الشأن العام.
إن الحديث على أن الحركة الاجتماعية الجديدة لا طبقية ولا أيديولوجية ويذهب البعض إلى حد القول أنها لا سياسية لأنه ينظر للحركة باعتبارها مجموعة أفراد الذين لا رابط بينهم سوى شبكات التواصل الاجتماعي والذين قد ينخرطون في حركة معينة ليس لأنهم متضررون من الليبرالية الجديدة بل فقط لأنهم تلقوا رسالة تدعوهم للتظاهر.
ماكرون والسترات الصفراء
ولسائل أن يسأل، إذا كانت المسألة طبقية وأيديولوجية وسياسية بمثل هذا الوضوح فلماذا إذن ظهرت حركة السترات الصفراء في فرنسا؟
أتى ماكرون إلى السلطة بمشروع نيوليبرالي، إذ زيادة على استهدافه لمكاسب الطبقة العاملة الفرنسية والشعب الفرنسي ولتنفيذ برنامجه على الوجه الأكمل فقد عمل على ضرب الأحزاب التقليدية في العمق بتأكيد عجزها في منافسته في الانتخابات الرئاسية والتشريعية وهزمها بالاعتماد على المجموعات المستقلة التي لم تعد تثق بالأولغارشيا السياسية وكان له ذلك، ثمَ همَش النقابات، ظانا أنه يمكن له تجاوز البناء التقليدي بظاهرة المستقلين والشباب. لكن نزلت الإجراءات التقشفية بثقلها على الشعب الفرنسي حتى تدهورت أوضاعه وتعرضت الطبقة الوسطى فيه إلى ضرر كبير بحيث أنه لم يعد بوسعه العيش كما في السابق ولم يجد آليات الدفاع عن مصلحه لأنه كان قد ابتعد عن الأحزاب التقليدية وعن النقابات ظانا بأنه وجد ظالته في ما دعاه إليه ماكرون وإذا به يلاقي الويلات فخرج إلى الشارع واستعمل شبكات التواصل الاجتماعي في تنظيم اجتجاجه. لكن الأكيد ولا جدال هو أن استمرارية الاتصال والعمل على الشبكات وتنظيم الشعارات والتحركات تتطلب وجود مجموعة مستقرة تعمل بتنسيق دائم لقيادة الحركة في اتجاه تحقيق مطالب محددة وبلوغ أهداف بعينها. والمتابع للحركة منذ نشأتها يلاحظ دون عناء أنها تجاوز المطالب المباشرة لمطالبة ماكرون بالاستقالة وبمراجعة أشكال التمثيلية الديمقراطية التقليدية، زيادة على أشكال العنف المنظم التي أخذت مكانها لدى الحركة. كلها دلالات على وجود مجموعات منظمة تؤطر حركة السترات الصفر في فرنسا. ونشير أيضا إلى أن استمرارها واستقرارها يعود إلى أنها تطالب بمعالجة أزمة الديمقراطية وتتقدم ببديل لذلك. وهو ما يؤكد أنها ليست مجرد حركة عقؤية وقد تكون كذلك عند انطلاقها لكنها التحمت بممثليها السياسيين وهكذا أخذت لتوها طابع سياسيا رغم أنها لم تكن سياسية في الأصل.
ونختم بالقول أن الحركة الاجتماعية الجديدة ليست جديدة بل هي وليدة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية التي أصبحت عليها الطبقات الشعبية والجديد الذي ظهر لديها هي الوسائل المستعملة، شبكات التواصل الاجتماعي، والشعارات المرفوعة والأهداف المرسومة التي تكون بالضرورة بالأوضاع التي تمر بها الطبقة أو الطبقات والفئة أو الفئات الاجتماعية التي تضعها للدفاع عن مصالحها.

محمد الكيلاني

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه