أي منوال تنمية وبرنامج تونس في حاجة إليه؟

أي منوال تنمية وبرنامج تونس في حاجة إليه؟إن السؤال الذي يطرح نفسه، هو هل تمكنت الحكومات المتعاقبة، منذ أن دخلت بيت الطاعة لصندوق النقد الدولي، من تجاوز الازمة الحادة التي تشهدها البلاد على جميع الأصعدة؟
فشل الخيارات الحكومية التنموية وفي مواجهة الأزمةإن كل المؤشرات دالة على أن تنفيذ "ورقة تعليمات" صندوق النقد الدولي أدى إلى نتائج وخيمة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعمق الأزمة التي تمر بها منذ ما يزيد عن العقد، حيث أفقدت البلاد نسيجها الصناعي وخصخصت جلَ مؤسساتها ومنشئاتها العمومية وحررت الأسعار وعومت الدينار وتركت التضخم المحلي والمستورد يدفع بالاقتصاد إلى الانهيار وظلت عجلة الاقتصاد تدور ببطء كبير في الوقت الذي أصبح فيه الاقتصاد الموازي(عن طريق التهريب) يهيمن على الاقتصاد الرسمي، واستشرى الفساد والمحسوبية والرشوة بشكل أضعف الإدارة والدولة وجعلهما عرضة للإختراق، وخرب التهريب الاقتصاد الوطني وأرهق التهرب الجبائي من قبل أصحاب المال مداخيل الخزينة وتفاقمت البطالة وتضاعف الفقر وانهارت الطبقة الوسطى وأصبح دافعوا الضرائب لا يقدرون على الإيفاء بحاجيات عائلاتهم اعتمادا على أجورهم. ومما زاد الوضع خطورة هو الفساد السياسي الذي ألحق ضررا بالدولة ورمزيتها في المجتمع والتجأت الحكومات المتعاقبة لمعالجة معضلاتها المالية إلى الاقتراض وخضعت تبعا لذلك لتعليمات صندوق النقد الدولي حتى أن الديون الخارجية لم تكن تتجاوز الـ37% من الناتج الداخلي الخام في 2010 قفرزت في 2016 إلى 58% وفي نهاية 2018 من المتوقع أن تتجاوز الـ70% وأن 82% من تلك القروض رصدتها الحكومات المتعاقبة لتسديد الديون.
من الواضح أن منوال التنمية الذي اتبعته حكومات ما قبل 14 جانفي وما بعده هو الذي قامت عليه الخيارات التي أدت إلى مثل هذا وضع الأزمة الخانق الذي لا يمكن تجاوزه إلا بمراجعته مراجعة جوهرية. إن هذا المنوال هو منوال نيوليبيرالي يعطي قانون السّوق سلطة كلّية الجبروت ويفتح الطريق أمام الثراء السهل للشرائح الطفيلية من الرأسماليين ويشدد الاستغلال على منتجي الثروة الفعليين(الشغالين بالفكر والساعد وسائر الكادحين)، لأنه لا يعير وزنا للكادح والعامل باعتباره مستهلكا، بل يتعامل معه ككلفة إنتاج يضغط عليها لتحقيق الربح وأقصى الربح. وهو مفهوم برر التعديل المستمر على التشغيل والأجر والقدرة الشرائية لكسب رهان المنافسة ومواجهة متغيّرات السوق.
منوال التنمية الاجتماعي التضامنيإن مراجعة هذا المنوال تعني تبني منوال تنمية قائم على الاقتصاد الاجتماعي التضامني، يعتمد على الطلب الداخلي والتكامل بين القطاعات وعلى التنمية الجهوية والعمل على تحقيق الإكتفاء الذاتي إنتاجا واستهلاكا وعلى الادخار الوطني بصورة أساسية تمويلا، وعلى منجزات التقدم العلمي والتكنولوجي وعلى اقتصاد المعرفة باعتباره ركيزة كل تنمية اقتصادية وبشرية حديثة وعلى تلبية حاجيات الشعب ورفاهه وتمكينه من ممارسة سيادته على الوجه الأكمل وتحقيق طموحاته وتطلعاته، ويدعم الإمكانات الخاصة للاقتصاد الوطني وحسن التصرف في مقدرات البلاد ويصون ويحمي مكاسبنا الوطنية، وعلى التعاون مع المحيط الإقليمي والعالمي في إطار احترام القرار الوطني.
إن منوال التنمية الاجتماعي التضامني هو الذي يراعي الإمكانيات المحدودة لبلادنا وندرة مواردها الطبيعية وموقعها الجغراسياسي واستعداد أبنائها للبذل والعطاء وتأهلهم العلمي والتقني والثقافي، وهو الذي يلبي حاجيات السوق الداخلية ويحميها من التقلبات ويضمن نسق نموّ يسمح بالاستجابة لمتطلبات تنمية متوازنة ومستدامة. ويقوم هذا المنوال على:
• القطاع العام والقطاعات الإستراتيجية باعتبارهما قاطرة تنمية،
• القطاع الخاص الذي يتحمل مسؤوليته الوطنية ويراعي المصلحة العليا للوطن ويتحمّل قسطه في التنمية والتشغيل ولا يضع مصالحه الضيقة فوق كل اعتبار،
• القطاع التعاوني،
• التنمية المتوازنة بين الجهات، وفي طور أول اعتماد التمييز الإيجابي للجهات التي حرمت من التنمية كي تلتحق بسرعة بالشريط الساحلي،
• تكثيف التعاون مع الجارتين، الجزائر وليبيا، بما يخدم مصالحنا المشتركة.
• الاستفادة من التحولات العالمية والثورات العلمية والتقنية والاتصالية.
يكون من الغباء السياسي أن نتحدث عن مخرج لبلادنا من المأزق الذي تردت فيه إذا لنكن حملة مشروع طموح يجعل الشعب التونسي يقبل على العمل والتضحية ويعود بخطى ثابتة لقيمة نكران الذات في علاقة بالوطن وبالصالح العام. إن الشعب التونسي لا يمضي معنا بعيدا دون أن يحلم بأن تكون بلاده فضاء متقدما جاذبا اقتصاديا وطبيعيا مندمجا في محيطه المغاربي والإقليمي والعالمي منفتحا على الآخر ومتمسكا على هويته ومساهما من مواقع متقدمة في الحضارة الإنسانية، ودون أن يكون العمل قيمة ثابتة لديه. ولتحقيق هذا الهدف سوف نعمل على وضع مشروع متكامل ومخطط يشمل الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي والتكنولوجي والبيئي والحضاري، يكون فيه المواطن التونسي المحور الأساسي في التنمية.
وتتمثل الخطوط العريضة لهذا المشروع في ما يلي:العمل تحسين جملة من المؤشرات الكمية والنوعية
1 - مؤشر التنمية البشرية
2 ـ مؤشر نوعية الحياة
3 ـ مؤشر التنمية المستدامة
4 ـ مؤشر النمو
إضافة إلى1 ـ الحد من التداين الخارجي والتعويل على الادخار الوطني.
2 - بناء اقتصاد وطني اجتماعي تضامني متمحورا على ذاته ومنفتحا على محيطه الإقليمي والعالمي يقطع مع التبعية ويقيم علاقاته على أساس التكافؤ والحرية والسيادة.
3 - ضمان الأمن للمواطنين والتصدي للإرهاب والجريمة.
4 ـ وضع أسس قيمية للمجتمع عمادها العدل والمساواة والتضامن والتسامح والتعاون وحب الوطن ونبذ الجمود العقائدي والكراهية بين الأجناس والأمم ومناهضة العنصرية والفاشية والتمسك بالسيادة الوطنية وبحق الشعوب في تقرير مصيرها.
كيف يمكن أن تكون تونس المستقبل؟ترتكز الرؤية المستقبلية لتونس على:
1 ـ أن يكون اقتصادها وطني اجتماعي متضامن عصري متجدد ومتماسك.
2 ـ تهيئة مجالها الحضري كي يكون جذابا وله دور فعَال في التنمية.
3 - مجتمع متماسك ومتفاعل مع التجديد والحداثة.
4 ـ عدالة اجتماعية واقتصادية بين مختلف الجهات والفئات الاجتماعية.
5 ـ بيئة سليمة وأمن دائم.
التوجهات الاقتصادية والاجتماعيةولتجسيم هذه المحاور يمكن أن نضمنها في خطة إستراتيجية تقوم على التوجهات التالية:
1 ـ إعادة توجيه الاقتصاد الوطني وهيكلته بالاعتماد على أربعة ركائز (فلاحة – صناعة – تجارة – خدمات)، بدلا من اثنين: سياحة وفلاحة.
2 ـ مراجعة السياسة التجارية للحكومة القائمة على تصدير موادنا الأولية وخدماتنا وإيراد جلَ ما تكون السوق الداخلية في حاجة إليه من البلدان الصناعية، والتوجه نحو تنمية علاقاتنا التجارية بالجزائر وليبيا وإفريقيا جنوب الصحراء وتصدير إنتاجنا بعد تثمينه واستيراد ما نحن في حاجة إليه دون إثقال كاهل ميزاننا التجاري.
3 ـ التركيز على التنوع القطاعي والترابط والتكامل والاندماج.
4 ـ الاعتماد في الجهد التنموي على إضفاء قيمة على إنتاجنا الفلاحي وعلى التصنيع المحلي بالجهات الداخلية وعلى المقدرات الخصوصية لكل جهة.
5 ـ تنويع الشراكات الدولية وخاصة مع القوى الصاعدة في العالم ومنها مجموعة "البريكس".
6 ـ وضع سياسة لتنمية المدن والعواصم الإقليمية وإعتماد تقسيم إداري جديد للبلاد إلى أقاليم لمناطق ذات إشكاليات متشابهة مع بعث ثلاثة عواصم إقليمية على الشريط الحدودي مع الجزائر.
7 ـ مراجعة المنظومة البنكية وملاءمتها لمتطلبات الاستثمار بالجهات.
8 ـ وضع خطة لتجميل كافة مدننا وتأهيلها وخاصة منها الداخلية.
9 ـ تحسين وملاءمة الخدمات الصحية وتطوير عمل المنظومة الصحية وتعزيز المكتسبات في هذا المجال وتلبية الحاجيات مع مواكبة التطورات الحاصلة سواء في مستوى البحث أو التطور المجتمعي والغذائي الذي حصل خلال العقود الفارطة.
10ـ وضع خطة عملية لضمان الأمن الغذائي.
11 ـ تطوير منظومة البحث العلمي وضمان انفتاحها على تنمية مختلف قطاعات التنمية والإنتاج.
12 ـ وضع خطة عملية للنهوض بقطاع التربية والتعليم والثقافة.
13 ـ وضع خطة للنهوض بالصناديق الاجتماعية وضمان ديمومة فاعليتها وتدخلها.
14 ـ تطوير المنظومة المعلوماتية والانخراط في منظومة التكنولوجيات المتطورة واعتمادها في منظومتي الانتاج والإدارة.
15 ـ إطلاق مشروع الاقتصاد الأخضر والتصرف في النفايات مع الاستفادة من تجارب عالمية ناجحة.
16 ـ وضع خطة للتحكم في الموارد المائية وحسن التصرف فيها.
ومن الطبيعي أن تحقيق هذه الأهداف وتحقيق حلمنا بأن نرى تونس بوجه مشرق آخر غير الذي هي عليه الآن، ومن الطبيعي أن بلادنا لا يمكنها أن تتغير إلا إذا غيَرت ما بذاتها خطوة تلو أخرى عن طريق برنامج مباشر للخروج من الأزمة يقطع مع الارتجالية التي زادتها تعميقا ويقوم على جملة من الإجراءات الاستعجالية القابلة للتنفيذ مباشرة دون تأجيل نعتمد فيها على تفعيل وترشيد كل الإمكانيات والموارد المتاحة في المستوى الوطني. ومن أهداف هذا البرنامج الأساسية هي دفع عجلة الاقتصاد إلى الحركة، يكون للدولة دور أساسي فيه، سواء في السهر على تنفيذه ودعمه أو في العمل على تحقيق نتائج إيجابية تساعد على تحسين الظروف المعيشية والأمنية للمواطن وظروف الاستثمار بفرعيه العمومي والخاص. كما يهدف هذا البرنامج إلى الحد من المديونية والنزول بها إلى ما دون الـ 50%.
(يتبع) محمد الكيلاني
تونس في 24 نوفمبر 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه