تونس في حاجة إلى منوال تنموي اجتماعي تضامني

تونس في حاجة إلى منوال تنموي اجتماعي تضامنيكان السويد أول دولة اختارت بعد أخذ ورد بين الليبرالية الجديدة وسياستها التقشفية والليبرالية الاجتماعية، جراء الضغط المسلط عليها من الغرب الرأسمالي الذي هزته الأزمات المالية والاقتصادية وأخطرها الانهيار العظيم في 1929 ويتبع سياسة ليبرالية تقشفية، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فهو يتعرض للضغط السوفياتي، وجراء عجزها على تجاوز أزمتها بل ازدادت أوضاعها تدهورا. وفي وبعد فوز الحزب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات راجع خياراته الاقتصادية وتخلى عن السياسة التقشفية، وجمَعت الحكومة نقابة العمال والأعراف والفلاحين والحزب الديمقراطي الاجتماعي لنقاش الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفقت جميع الأطراف على أن تتحمل التضحيات كما المنافع في إطار من العدل الاجتماعي. وبهذه الصورة نشأ منوال التنمية السكندنافي الذي وراء الرخاء الذي شهدته هذه البلدان طيلة نصف قرن تقريبا، ولم تشهد صعوبات تذكر إلا بعد إن قبلت بـ"ورقة تعليمات" صندوق النقد الدولي على إثر فوز الحزب الليبرالي السويدي في الانتخابات النيابية الأخيرة وتخليه على منوال التنمية الاجتماعي التضامني.
إنني لا أعتقد أن بلد مثل تونس بإمكانياته المحدودة يمكن له أن ينخرط في لعبة الكواسر، الليبرالية الوحشية، بل ما هو في حاجة إليه أن يسترشد من التجارب التنموية في السويد وإيزلندا وماليزيا...ومن تجربتنا الخاصة في مرحلة بناء الدولة الحديثة وفي الطور الأول من "تجربة التعاضد" ومن التجربة الليبرالية في النصف الأول من السبعينات، لضبط التوجهات العامة لمنوال تنمية اجتماعي تضامني، باعتباره هو الذي يضعنا على سكة التنمية الاجتماعية التضامنية المستدامة وهو الذي يساعد بلادنا على تجاوز أزمتها بأقل التكاليف الممكنة.
إن منوال الذي نتبناه ونتقدم به للتوانسة باعتباره السبيل الوحيدة لإنقاذ بلادنا من الوضع المتردي الذي آلت إليه، يقوم على إستراتيجية واضحة مؤسسة على التعاون والتكامل بين القطاع العمومي والقطاع الخاص المتحمل لمسؤوليته المجتمعية والقطاع الاجتماعي الذي يجمع المتعاونين من أصحاب المؤسسات الصغرى والمواطنين الحاصلين على موارد رزق. ويقوم أيضا على منظومة جبائية تعيد توزيع الثروة بما يحقق العدل الاجتماعي ويقاوم التغول والاحتكار والفساد والرشوة، وعلى دعم الرقابة الديوانية وتشديدها وفرض تطبيق القانون والتراتيب الجاري بها العمل على جميع المتدخلين وتنشيط الحركية الاقتصادية في المناطق الحدودية وذلك ببعث مناطق تجارية حرة كحل وقائي للتصدي للتهريب. وزيادة على تتدخل الدولة بمشاريع كبرى لتنمية الثروة في المجتمع ومركزتها.
وهي إستراتيجية تهدف إلى بناء اقتصاد يقوم على التكامل والتوازن بين قطاعاته الأساسية وعلى تحقيق توازن السوق الداخلية ومع السوق العالمية، وإلى بناء نسيج صناعي يأخذ بعين الاعتبار المعطيات المحلية والإقليمية والعالمية للاقتصاد الوطني ويوقف نزيف تحويل اقتصاد البلاد إلى اقتصاد استهلاكي ويدعم بناءه كاقتصاد منتج للثروة.
ولمزيد توضيح أسس المنوال التنموي الذي نقترحه نتناول القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المدعوة للتعاون:ـ القطاع العمومي الذي كان يمثل أحد الركائز التي تعتمد عليها الدولة في ماليتها وفي تعديل السوق وفي ضمان الخدمات العامة للمجتمع بأسره وللطبقات والفئات الشعبية بصورة خاصة لأنها في حاجة إلى مثل هذا الدعم. ونشير في هذا الصدد إلى أن هذا القطاع يتعرض منذ أواسط الثمانينات وتسعينات القرن الماضي إلى التفويت لصالح الخواص، محليين وأجانب، تحت ضغط الدول العظمى والدوائر المالية العالمية وبصورة خاصة صندوق النقد الدولي، والحال أن مصلحة بلادنا وشعبنا تستوجب رعايته وصيانته والعمل على تحسين أدائه والرفع من قدراته التنافسية حتى تتوفر لخزينة الدولة مصادر تمويل إضافية للموازنات المالية السنوية ولضمان تنمية متوازنة ومتواصلة ومستدامة. لذلك نحن نعارض التفريط في القطاع العمومي ونطالب بمراقبة التصرف فيه بصرامة، كما نطالب بتأميم الأملاك المصادرة ومحاسبة الأمناء العدليين على التصرف فيها محاسبة دقيقة، خاصة وأن عدد من هذه الأملاك بصدد التعرض "للتفليس المتعمد" كي يتم بيعها بأبخس الأثمان لصالح من سينتفع بها.
إن القطاع العام والقطاعات الإستراتيجية والأشغال الكبرى، تمثل في عمومها قاطرة الاقتصاد الوطني، لذلك نحن نولي هذه القطاعات أهمية كبرى ونحرص على العناية بها والرفع من قدراتها وتأهيلها باستمرار وتحسين أدائها وتنمية فاعليتها، ونعمل على التصدي لعقلية "رزق البيليك" التي تعرضها للاستنزاف وتلحق بها أضرارا بليغة، كما نعمل على تحريرها من المكبل البيروقراطي كي نجعل منها قطاعات عصرية قائمة على الإدارة الحسنة. وبهذه الطريقة يمكن أن نحول القطاع العام والقطاعات الاستراتيجية والمشاريع الكبرى إلى قطاعات محركة فعلا لباقي القطاعات.
ـ القطاع الخاص ذو المسؤولية المجتمعية: إن هذا القطاع يعني المؤسسات التي تتحمل مسؤوليتها مع الدولة في مواجهة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كما التشغيل والتنمية بصورة عامة، وقد شهدت هذه الشريحة من رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات تحولات عميقة مع الانتقال الديمقراطي، إذ انحازت بصورة صريحة إلى جانب قيم الجمهورية ومؤسساتها ومبادئ الديمقراطية وآلياتها وأسلوب الحكم بواسطتها، ووضعت المصلحة العليا للوطن والمصلحة العامة في المقام الأول.
ونؤكد أنَ موقفنا هذا لا يتعارض مع الملكية الخاصة بل يقف فقط إلى جانب المؤسسات التي تعطي للعمال حقهم وتتحمل مسؤوليتها الاقتصادية والاجتماعية مع الدولة وتعتبر نفسها شريكا في المشروع التنموي. أما المؤسسات التي لا تعتبر نفسها معنية بالمصلحة الوطنية والمصلحة العامة فهي حرة في خياراتها لكن الدولة حرة في عدم التعاون معها وتقبل بأن تترك علاقتها بالإدارة تجري بحسب ما يضبطه القانون.
ـ القطاع "الاجتماعي التضامني": نود أن نبدأ بتوضيح ذا شأن يتعلق باستعمال مصطلح "الاقتصاد التضامني" لدى الأحزاب من جهة اليسار أو اليمين سويا، فقد اقتبسته من حزمة المصطلحات والصيغ التي أنتجتها الدوائر المالية العالمية لتعطي بها مدلولا إنسانيا لجملة الإجراءات التي أعدتها لإعادة إدماج الشغالين، الذين همشتهم "عملية الإصلاح"، في الدورة الاقتصادية، بينما الصيغة التي نستعملها نحن تتعلق بمشروع مجتمعي ومنوال تنمية مصاغ في إطار تعاوني معارض للاستغلال والاضطهاد.
ولمزيد من التوضيح فإن الصياغات الأولى ليست سوى توسيع للمفهوم الأصلي، المشار إليه أعلاه، على الفئات السفلى للمجتمع، التي هي في الواقع غير معنية بالإجراءات الإستثنائية، لكنها معنية بالعمل الاجتماعي الذي تقوم به الدولة تجاه الفئات الضعيفة والمحرومة، وتتولى الإشراف على إنجازه الإدارة نفسها أو جمعيات ناشطة في هذا المجال. أما الصياغة التي نقدم بها برنامجنا فلا علاقة بينها وبين الصياغات سالفة الذكر لأنها تطرح مضمونا جديدا ومشروعا إصلاحيا شاملا للمجتمع بأسره أطلقنا عليه إسم "الاقتصاد الاجتماعي التضامني" ومنوال التنمية "الاجتماعي التضامني"، وهو ما سنتولى بيانه في ما يلي:
يتألف القطاع الاجتماعي التضامني من صنفين:
الأول،
يتشكل من التعاونيات التي تنشأ بين المؤسسات الصغرى إنتاجا وتوزيعا ومالية، للضغط على الكلفة وتحسين المردودية، وتحقيق ربحية أفضل.
أما الثاني فيتعلق بمواطن الرزق التي تشمل الطبقات التي تعيش على حافة الفقر والتي تعمل بإمكانيات تسمح لها بأن تضمن شروط عيش مقبولة، وهي تجمعات ترتبط بالدولة في إطار المشاريع الاجتماعية التي تخصصها للطبقات والفئات الضعيفة، والتي تشترك في تأطيرها مع جمعيات من المجتمع المدني المختصة في الموضوع.
إن الدولة مسؤولة، دون سواها، على وضع الإختيارات التنموية حيز التنفيذ، بينما الأحزاب تقترح المشاريع التي تراها مناسبة وتقدم اقتراحاتها في برامجها الانتخابية، وإذا فازت تضعها حيز التطبيق. وقد تتفق مع بعض الأحزاب الأخرى حول مشروع مشترك. ومن الطبيعي أن يتم إعداده في سياق أحد المنوالين التنمويين الاجتماعي التضامني والليبرالي، وأن تنفيذه سوف يؤدي إما إلى تحقيق النمو والتنمية الجهوية والعدل الاجتماعي، أو إلى انخرام التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، التي قد ينجر عنها إما سلم اجتماعية أو صراع بين الطبقات "المسحوقة" والطبقات الثرية. لذلك نؤكد أن اختيار منوال تنموي دون غيره قد يكون له أثر بالغ على مستقبل البلد لفترة طويلة.
الخيارات الأساسية لبناء اقتصادنا على أساس اجتماعي تضامني
تقوم توجهاتنا الاقتصادية على:1 ـ إعادة تأهيل وتوظيف ما للبلاد من ملكات في مجال التكنولوجيات الحديثة: الإعلامية والبرمجة والأتمتة والوسائط والمعلوماتية والاتصال، والاستثمار في مشاريع كبرى في ميدان اقتصاد المعرفة والأتمتة وإنشاء بنية تحتية رقمية تستجيب للمواصفات الدولية.
2 ـ دعم القطاع العمومي، باعتباره مرفقا عاما وضامنا للخدمات الأساسية، والكف عن التفويت في المؤسسات العمومية للخواص، وتحويل المؤسسات المصادرة من بن علي وتوابعه إلى مؤسسات عمومية. ودعم مكانة الدولة في القطاعات الإستراتيجية. ووضع خطة محكمة لتأهيلها وجعلها تعمل بمقاييس البلدان المتطورة، حتى تكون قادرة على لعب دور أساسي في التنمية.
3 ـ وضع خريطة لموارد الطاقة القابلة للتجدد وبرنامج توسيع الشبكة العمومية لتوزيع الغاز الطبيعي، وتطوير قطاع الطاقة البديلة ( الشمسية والهوائية...).
4 ـ العمل على إتباع سياسة تنمية جهوية متكاملة ومتوازنة مصاغة في إطار إعادة النظر في المجال الترابي والعمراني وإحداث 3 عواصم إقليمية (مدن أكثر من 200 ألف ساكن) على الشريط الحدودي الغربي.
5 ـ إتباع سياسة جبائية أعدل ما يمكن وترشيد السياسة المالية، وذلك عبر:
أـ إجراءات جبائية تشمل رجال الإعمال وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة والفلاحين وكل الذين لم يوفوا بالتزاماتهم الضريبية وذلك بإقرار جملة من الإجراءات تتمثل في:
أ1 ـ إعفاء الفلاحين الصغار والمؤسسات الصغرى من الديون المخلدة بالذمة،
أ2 ـ إعادة جدولة ديون المؤسسات المتوسطة والكبرى المتحملة لمسؤوليتها المجتمعية والتي تواجه صعوبات اقتصادية ومالية ومساعدتها على النهوض من جديد،
أ3 ـ مراجعة المنظومة الجبائية على أساس تحفيز الاستثمار في إطار الاقتصاد التضامني والعدل الاجتماعي،
ب ـ التعويل على الادخار الوطني في الاستثمار وجعل الالتجاء للاقتراض الخارجي تحت رقابة ممثلي الشعب وتجنب الالتجاء للسوق المالية العالمية، وطرح مسألة مديونية بلادنا للتفاوض مع الدائنين تفاديا لانعكاساتها السيئة، مع ضرورة طرح إشكالية الديون الكريهة في إطار المطالبة بإلغائها.
ج ـ الضغط على المصاريف العمومية في حدود 10% فيما يتعلق بالامتيازات المثقلة لكاهل الدولة والمؤسسات العمومية والمشاريع التي يمكن تأجيلها، وذلك لمدة سنتين إلى حدَ استرجاع التوازنات العامة للاقتصاد الوطني. ضرورة سن ضريبة على المواد الكمالية.
د ـ التحكم في المبادلات التجارية مع شركائنا ومراعاة قيمة العملة الوطنية في هذا التبادل حتى لا تصير الموازنات نحو مزيد من الاختلال.
هـ ـ مراجعة أسعار الماء الصالح للري وربط التمتع به على أساس الأسعار التفاضلية بمدى الالتزام بتطبيق عقود الإنتاج التي ينبغي إبرامها بين وزارة الفلاحة والفلاحين.
و ـ بعث صناديق للتنمية الجهوية وللنهوض بالمراكز الريفية التي يبلغ عددها حوالي 6000 مركز.
محمد الكيلاني
تونس في 30 نوفمبر 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه