الانتقال الديمقراطي الخطوة الأولى: 17 ديسمبر 2010 ـ 14 جانفي 2011، ثورة أم انقلاب أم ماذا...؟

الانتقال الديمقراطي
الخطوة الأولى:
17 ديسمبر 2010 ـ 14 جانفي 2011، ثورة أم انقلاب أم ماذا...؟
يتواتر الحديث، منذ خمس سنوات، بشأن مجريات الحراك الشعبي الذي انطلق من 17 ديسمبر 2010 وتوَج في 14 جانفي 2011 برحيل بن علي من الحكم ومن البلاد. لكن السؤال الذي مازال يطرح نفسه هو هل كان هذا الحراك ثورة أم انقلابا أم مزيجا بين الاثنين أم ماذا؟
ظل هذا السؤال يحرج المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والعديد من الذين كانوا يتحملون مسؤوليات سياسية أولى في السلطة. كما ظل السؤال نفسه يؤرق الرأي العام الديمقراطي والشعبي، لأن الإجابة عليه تستوجب العديد من التوضيحات حول جملة من المسائل التي تؤسس لهذا الرأي أو ذاك. فالحديث عن ثورة في تونس يفترض توضيح دوافعها وأهدافها واستراتيجياتها والقوى المحركة لها. كما أن الحديث عن انقلاب يستوجب الكشف عن القائمين به والجهات الداخلية والخارجية الواقفة وراءه والمصالح التي دفعت إليه.
ما من شكَ في أن هذه التوضيحات من شأنها أن تنير سبيلنا في إعادة رسم صورة كاملة على سير الأحداث والوقوف على حقيقة الفعل التاريخي الذي نحن بصدده.
لقد بدأ العد التنازلي الخاص للوصول إلى معرفة الحقيقة حول ما حصل فعلا فيما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، لأنه لم يعد ممكنا مواصلة إخفائها أكثر من ذلك، خاصة وأن الإعلام والمجتمع المدني أسقطا الصنمية التي أحاطت ببعض المؤسسات والشخصيات وتمكنا من تحرير نقاط الاستفهام من عقال احترام هذه الـ"قداسة" المفروضة ضمنيا وعمليا في العديد من الحالات، بما في ذلك المؤسستين العسكرية والأمنية. ولم ينج الساسة ونشطاء المجتمع المدني والإعلاميون والعديد من المسؤولين في الدولة سابقا وحاضرا من فعلها النشيط المركز على تقصى الحقائق والسعي إليها. وما كان لهذه الحركية أن توجد لو لم يجتز المجتمع التونسي بنجاح "اختبار الفتوة" (le baptême du feu)، أو المعركة الأولى للجندي، فيما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، حيث واجه الرصاص مرغما حتى تخطى حاجز الخوف يوما بعد يوم وتمسك بالشارع. فحاز على مجال من الحرية لم يعد يقبل التفريط فيه، ذاك المجال الذي تركته السلطة المنهارة في 14 جانفي، وهي تسعى الآن لاستعادته دون جدوى، ممَا قوى شكيمة الشعب التونسي وجعله قادرا معنويا على الوقوف بعناد أمام الحاكم حتى وإن واجهه بالرَش.
وبما أن الإعلام أخذ مكانه إلى جانب الحرية وأصبح حصنا لحمايتها وعنصرا ضاغطا لكشف العديد من الحقائق التي ساعدتنا على معرفة مجريات الأحداث والفاعلين فيها والتوصل إلى تقديم الخطوط العريضة للإجابة عن السؤال حول 14 جانفي؟ فإن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغض النظر عن مخاطر الأغراض الربحية لأصحاب وسائل الإعلام والشركات المنتجة للعديد من البرامج والكتل الضاغطة على الخط التحريري العام المؤطر للمقالات والتحقيقات ونقل الخبر وكيفية توظيفه. ورغم وجود هذه المخاطر فقد وجد الصحفيون مساحات فسيحة لممارسة مهنتهم بحرية فاستثمروها للكشف على العديد من الجوانب الخفية التي كان لها دور حاسم في "الثورة التونسية"، ممَا ساعد على تنسيب المواقف والأحكام وعلى فهم التكثـيف والتـسارع التـاريخيين الـذين حـصلا فيـما بـين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 ودورهما في مجرى الأحداث اللاحقة، بجوانبهما الرجعية والثورية، سويا.
لا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن يسيرا، زمن الجلبة، معارضة الحديث عن "الثورة من النمط الجديد" وعن "ثورة القرن 21" وعن "الثورة التونسية باعتبارها مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني"، وعن الشباب باعتباره "صانع الثورة"، بالحديث عن الانقلاب أو ما يشبه المزيج بين الحراك الشعبي المبرمج والانقلاب الجهازي والعمل المخابراتي وتخلَي الحزب الحاكم عن رئيسه ومعه المسؤولين السياسيين الأول في السلطة.
كنت من بين القلَة التي عارضت التيار لأنني كنت على يقين من أن الأحداث كانت تجري بغير العناوين البارزة التي كانت تحكى بها. حاولت الكشف عنها مبكرا وشدَ انتباه ذوي الألباب إلى الخطر الداهم، الذي يتم الإعداد له في "مكاتب التفكير" الأمريكية وتجنب الوقوع في مربع الوهم الذي قد يتملك المرء لمَا يظن نفسه "قاد ثورة" أو"أسقط نظاما بفعل ثورة" أو"قام بثورة" وهو، في الحقيقة والواقع، لم يخرج من دائرة فعل لا يرتقي إلى مستوى الانتفاضة. فيدفعه إلى أن يكون عامة ميالا لاتباع الحلول الراديكالية في تناول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن هذا الفعل. وهي المعضلات التي واجهناها بعد 14 جانفي وجعلتنا نخسر وقتا ثمينا في تعديل سير الأحداث باستمرار حتى نجنب بلادنا المزالق ونتجاوز الأزمة.
وبما أنني كنت على قناعة بأن ما حدث في تونس ليس سوى حراك شعبي عفوي، إذ زيادة على طابعه الاحتجاجي والمطلبي باعتباره يرفع شعارات الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، فقد افتقد لقيادة سياسية، حزبا أو جبهة، له بديل حكم ونمط مجتمعي ومنوال تنمية. وبذلك استغلته الدوائر الفاعلة، الداخلية والأجنبية، في إحداث هذا التغيير في الأوضاع لتجعل منه غطاء لعمل جهازي أزاح بن علي من السلطة وفتح طريق التغييرات الكبرى التي شهدتها البلاد . وعلى هذا الأساس كنت اعتقد أن هذا الحراك لن يتجاوز فعله ودوره إطار الإصلاحات الممكن إدخالها على أجهزة الدولة وعلى النظام السياسي. وهو تقدير تؤكده الأوضاع العامة بالبلاد في عهد بن علي حيث أن المعارضة العامة لنظام بن علي كانت محصورة في النخب ذات المشارب والمشاريع المتعددة ممَا جعلها تفتقد لبديل حكم وبصورة خاصة في الصف الديمقراطي، بينما البديل الاستبدادي باسم الدين ما انفك وزنه يتعاظم كلما اتجهت الأوضاع نحو مخرج ما.
ورغم هذا الوعي لديَ فقد كان حظَي أودعني بين رفاق ورفيقات وأصدقاء وصديقات ممَن استهواهم "تيار الثورة"، الشيء الذي جعلني دائم الجدل معهم، لأنهم لم يدركوا أن ما حصل ويحصل في بلادنا وفي المنطقة العربية هو جزء من "مشروع الشراكة من أجل إصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، وأن ما نحن بصدده ليس ثورة، بل هو حراك شعبي اتخذ غطاء لعمل حثيث لقوى داخلية وخارجية ومخابراتية كان هدفه الرئيسي إحداث تغييرات في أجهزة الحكم كي يتسنى لها تنفيذ "إصلاحاتها" المرتقبة وتركيز منظومة حكم جديدة تخوَل تنصيب تابعين جدد محمولين بشرعية "الثورة" و"الديمقراطية" و"حقوق الإنسان".
لم يصدق التونسيون في البداية أن نظام بن علي، الذي أسكن في نفوسهم الخوف والرعب، بصدد الانهيار وهو فعلا يترك مقامات الحكم فارغة من أهلها في البلاد كلها. إنها لحظة تاريخية فارقة لم يدركها الساسة لحظتها، وحتى أولائك الذين تبينوها، لم يفقهوا ما هم فاعلون بها، بحيث لم تجد عليهم قرائحهم بحلول سوى تلك التي قدموها لمساعدة حركة النهضة كي تمسك بالسلطة وبمفاصل الدولة.
إن تكثف التاريخ وتسارعه يضع الشعوب، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تتقدم لتنجز عملها التاريخي المستقل، حتى وإن كانت غير مؤهلة للقيام به، أو أن تتراجع وتخسر لحظتها التاريخية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن الشعب التونسي، وهو مدفوع للحركة، لم يكن مدركا أن فعله قد ينتهي برحيل بن علي. كما أن النخب النيرة، السياسية والمدنية والثقافية والعلمية، لم تكن مؤهلة لاستغلال هذه الفرصة التاريخية لوضع مقومات الانتقال الديمقراطي للجمهورية، لذلك آلت السلطة السياسية لغيرها، أي لحركة النهضة. على هذا الأساس، فإن الشعب التونسي، إذا لم يتعلم الدرس، سوف يجد نفسه في وضع حرج مع تاريخه وهويته وتقدُمه ورقيَه. كما أن نخبه النيَرة التي لم تدرك أنه قد أمنها على رهان الحكم وتصحيح مسار الانتقال الديمقراطي، خسرت الانتخابات التأسيسية وحتى لمَا حازت بعض قواها على الأغلبية النسبية في مجلس نواب الشعب، فقد أعادت حركة النهضة إلى السلطة بالتحالف معها.
ورغم حجم الخسارة التي لحقت النخب النيرة، النخب الجمهورية والديمقراطية في انتخابات المجلس التأسيسي، فقد بذلت القوى المدنية منها وشرائح واسعة من الشعب التونسي وأصناف من اليسار والوسط الديمقراطي الاجتماعي، كل الجهد دفاعا عن مكاسبنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية أمام سعي"التحالف الثلاثي" الحاكم وأغلبية المجلس للمساس بها. ولو لم نفعل ذلك لوضع لنا دستورا عقديا لدولة دينية ولأصبحت المرأة مكملة للرجل ولفقد مجتمعنا، مبدأ المساواة الذي قام عليه والمواطنة التي مثلت أساسا من الأسس التي قامت عليها الجمهورية والحرية التي أرادت حركة النهضة في أكثر من مناسبة إخضاعها لرقابة الشريعة، وهي أسس لا نقبل المساس بها أو مراجعتها من قبل أي سلطة، تشريعية كانت أم تنفيذية، إلا من زاوية مزيد تطويرها.
وباختصار إننا إذا لم نوحَد طاقاتنا ولم نعبئها ولم نتحرك بالقوة الكافية فإن القوى الرجعية الحالمة بالخلافة تجد الطريق مفتوحا أمامها للعبث بمؤسسات الجمهورية والدولة العلمانية وإتلافها.
لقد تعلَمنا جميعا، شعبا ونخبا، أن إهدار فرصة تاريخية سانحة لتغيير الأوضاع، سواء بالتردد أو الغوغائية، يساوي خسارة حرب بأكملها. لقد كلفتنا خسارة الانتخابات التأسيسية سنتين من النضال المتواصل من أجل أن يحافظ الدستور، في صياغته النهائية، على طابع الدولة "المدني" وعلى جوهرها الجمهوري، وأن يحقق لها مضمونا ديمقراطيا اجتماعيا، إلى حدَ ما. لقد خسرنا معها كل مراكز ومواقع القرار التي كان بإمكانها أن تسرَع نسق مسار الانتقال وأن تحميه من الانحراف وتجنب البلاد المنعرجات الخطيرة التي تواجهها، ممَا جعلنا وكأننا نترصَد الفرص، لعلنا نحقق البعض من المكاسب.
لقد خسرنا لطفي نقض وشكري بلعيد ومحمد البراهمي وعناصر من الجيش الوطني والحرس الوطني ومن الأمن، سقطوا في الروحية والشعانبي وتونس العاصمة وقبلاط وسيدي علي بن عون وجندوبة وبنقردان....، لأن حركة النهضة فتحت المجال أمام الإرهاب كي يعشش ويفرخ في بلادنا، ليكون أداتها الحاسمة في الحفاظ على السلطة.
اغتيل لطفي نقض، منسق نداء تونس بتطاوين، يوم 18 أكتوبر 2012، على إثر مسيرة "تطهير المؤسسات والإدارة والبلاد من أزلام النظام السابق"، تمَ الإعداد لها باجتماع عام يوم 17 أكتوبر 2012، كانت الخطابات فيه نارية متوعدة. وكانت قد شاركت في هذا الاجتماع وفي المسيرة كل من روابط حماية الثورة بالولاية وأحزاب المؤتمر وحركة النهضة وحركة الشعب. وفي غمرة الحركة، التي كانت تغذيها روح انتقامية سوداء للمنفلتين من بين المتظاهرين، تمَ الاعتداء على لطفي نقض ضربا ورفسا وتهشيما وسحلا، إلى أن أردوه قتيلا. علما وأن من ارتكبوا هذه الجريمة معروفون، والأبحاث تؤكد ذلك، لكن القضاء لم يتمكن إلى اليوم من أن يقول كلمته.
خسرنا شكري بلعيد أيضا، حين سقط برصاص الإرهاب، يوم 6 فيفري 2013، أمام العمارة التي يسكنها. فكان فراقا مؤلما حقا، عبَر فيه التونسيون عن مدى احترامهم وتقديرهم لأبنائهم الذين دافعوا عنهم وعن وطنهم وتمسكوا بالكلمة الحرة. فشيعه ما يناهز عن المليون مواطن، شيبا وشبابا، نساء ورجالا. وبعد 6 أشهر، جدد "التوانسة" تعلقهم بشهيد الحرية لمَا تظاهر ما يناهز عن النصف مليون مواطن مطالبين بالكشف على "اشكون قتل بلعيد؟".
وفي 25 جويلية، لمَا كان الشعب التونسي يتأهب للاحتفال بعيد الجمهورية، امتدت يد الإرهاب، مرة أخرى، لتنال من محمد البراهمي، عضو المجلس التأسيسي والمنسق العام للتيار الشعبي، أمام منزله. فكانت ردة فعل الشعب التونسي سريعة، حيث نزل إلى الشارع ليعمَ الاحتجاج والغضب. في غمرة الحدث الرهيب انطلق اعتصام الرحيل مباشرة مدعوما بحراك جماهيري امتد لشهر ونيف، شهد فيها الشعب التونسي تحولا نوعيا في وعيه الجمهوري، وكان للمرأة دور فعال في ذلك.
نود أن نشير إلى وجه الشبه بين الدور الذي لعبه رصاص القناصة أيام الحراك الشعبي ورصاص الاغتيالات التي استهدفت السياسيين والأمن والجيش. فقد دفع الأول بالشعب التونسي للخروج إلى الشارع محتجا وكأنه "ينجز ثورة"، بينما الثاني دفع به للخروج إلى الشارع في "ثورة ثانية" لتصحيح مسار الانتقال الديمقراطي. ولا نستبعد إطلاقا أن هذه العمليات معدَة للإرباك والتخويف وتصفية الخصوم، ومحاولة لإعطاء صياغة جديدة لرمزية "الثورة التونسية" للخروج بها من "الاحتراق" إلى "الشخصية السياسية الثورية" المدافعة عن أهداف "الثورة" وعن المطالب العامة للشعب وعن الجمهورية وعن الديمقراطية والمساواة، وإلى إعطاء مشروعية للجيش والأمن والحرس في "الثورة" وفي حمايتها. إنها مشروعية تجعل الشعب يقبل بالجميع شركاء دون تحفظ، ويفرض على القوى السياسية والمدنية التي كانت بالأمس تصوغ إستراتجيتها في إطار المواجهة مع هذه الأجهزة، تقبل بها شريكة اليوم خاصة وأنها دفعت ضريبة الدم ولم تعد في حاجة لإثبات وطنيتها وتوجهها الجمهوري.
وفي محاولة لتتبع هذه الأبعاد في "الثورة التونسية" سوف أحاول العودة إلى الأحداث التي طبعت تونس المنتفضة، تونس المُصلحة، تونس المُتطلعة لما هو أفضل. لذلك سأتناول بالتحليل الظروف الموضوعية لهذه الحركة في تفاعل مع مواقف مختلف القوى السياسية وصراعها من أجل تصدَر الأحداث والتأثير فيها وسعيها إلى الوصول للسلطة وسأتعرض لمختلف الأطروحات التي كانت حاضرة في المحطات الكبرى وبصورة خاصة في انتخابات المجلس التأسيسي والانتخابات التشريعية والرئاسية وما أسفرت عنه من نتائج تركت جانب الجمهورية ضعيفا ومكنت القوى المناهضة لها، في مناسبات عديدة، من محاولة تغيير وجهتها في اتجاه قيام استبداد محافظ جديد.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه