بين الإغريق والرومان، بعيدا عن فرويد الــــــمـــــذاق الـــــمـــــرّ لــ 2019

بين الإغريق والرومان، بعيدا عن فرويد
الــــــمـــــذاق الـــــمـــــرّ لــ 2019

بقلم: محمد الكيلاني
(الصحافة اليوم /الجمعة 3 أوت 2018/ص4)


جلست يوم السبت منذ الصباح، على غير عادتي، أمام التلفزيون أترقب انطلاق النقاش حول منح الثقة لوزير الداخلية الذي اقترحه رئيس الحكومة. فاضطررت لمتابعة النقاش حول القرض من صندوق النقد الدولي. كان المجلس شبه فارغ من أهله، وكان النقاش نقاش صم. وما إن تمَ التصويت على الفصل الوحيد، حتى بدأ المجلس يكتظ.
أخذ رئيس الحكومة الكلمة، تحدث عن المؤشرات الإيجابية وعن الإصلاحات ثم قدم مرشحه لوزارة الداخلية.
تداول النواب على الكلمة، وتابعت على المباشر تحاليل ومواقف تحمل أوجاع الناس والوطن وأخرى حبلى بأحلام الأشخاص وطموحهم المفرط وبمصالح الثراء ومصالح دراغولا. ممثلون وممثلات، هيئات محاكم ومحامون و«مغرقون»، وديكور يتغير حسب الموضوع.

وضع مأساوي ـ هزلي، وأسطورة «قتل الأب»
وهكذا وجدت نفسي أمام مسرحية إغريقية مأساوية ـ هزلية تحكي مأساة شعب مدمر لكنه حالم وآمل دوما ووطن في مهب الريح وحكام توحيديون لا يسمعون أنينه. ولم أقدر على التحرر من جبروت الميتولوجيا الإغريقية، التي شدتني إليها شدا عنيدا، مداخلات بعض النواب والنائبات الذين أطنبوا في التجريح الذاتي الذي توجهوا به لرئيس الدولة، ليس في نيتي البتة الدفاع عنه لكنني دائما مع نقد المواقف والسياسات والخيارات دون التعرض للذوات، وقد رأيت في التجريح الذي أتوه نوعا من نظرية «قتل الأب» في علم النفس. فهؤلاء لم يكونوا شيئا قبل ظهور النداء و»البجبوج»، كما يتحدثون عنه، رأيتهم لاذوا بالفرار يوم نظم «الإتحاد من أجل تونس» اجتماعا عاما في باب سويقة، وبالمناسبة أريد أن أشكر الفنان فاضل الجزيري الذي تقدم بالفكرة وأعد لها كي تكون ناجحة بينما بذل آخرون كل الجهد من أجل إفشالها. وشاءت الظروف أن الهاربين والهاربات بالأمس أصبحوا اليوم «نوابا ونائبات للشعب»، يريدون «قتل الأب»، كي يتحرروا من عقدة «البجبوج» «باش يعملوا السياسة» باستقلالية عنه.
لم أقدر على مغادرة الميتولوجيا الإغريقية التي أنجبت طفلا اسمه أوديب من أب اسمه لايوس أبلغه صوت آت من السماء: «سوف تنجب ولدا يقتلك»، والقياس يدلنا على السنة الطبيعية للتداول في الحياة وفي السياسة، وكلما حدث بشكل عفوي، أي طبيعي، لا يحكمه العقل عقل القوة المؤتمنة على المشروع، يكون عنيفا، لأن الطفل لا يصبح رجلا إلا متى أزاح من أمامه «الأب» صاحب السلطة الأبوية. وحملتني معها الميتولوجيا الإغريقية إلى الحياة السياسية الرومانية ومكنتني من أن أرى عملية «قتل الأب» بالتأويل الفرويدي بل في صيغة «اغتيال سياسي للأب».
معذرة أنا لا أريد أن أخيف ولا أن أتهم أحدا. وكل ما أدعو له هو أن نعمل العقل جيدا، أن نتعظ وأن نستخلص الدروس من التاريخ، ألا نقرأ وكأننا نتابع حلقة من حلقات الصور المتحركة، لنقرأ جيدا ابن المقفع والجاحظ وابن خلدون والتاريخ القرطاجي. وللتذكير فإن كل من حكموا قرطاج أصبحوا بعد انتهاء ولايتهم «حكماء قرطاج» وقضاتها. ولم «يقتل الأب» في الديمقراطية القرطاجية.

ماذا حدث لجول سيزار، حتى نصنفه ضمن ضحايا «قتل الأب»؟
انتخب جول سيزار «دكتاتورا» من قبل مجلس الشيوخ الذي فوض له كل سلطاته، لكن المحافظين على التقاليد الديمقراطية للإمبراطورية تجمعوا وراء بومبي، وأدى هذا التزاحم على السلطة إلى حرب أهلية خرج منها سيزار منتصرا. حينها قرر «المحافظون» تنظيم عملية اغتيال ديمقراطية للطاغية، واختاروا بروتوس ابنه من إحدى خليلاته وابنه الروحي الذي يثق به. واختلقوا حيلة جروا بها حراسه الشخصيين خارج مجلس الشيوخ وتولوا توجيه 24 طعنة بالخناجر كانت الأخيرة والقاتلة هي التي وجهها له ابنه بروتوس.
كان تاريخ اغتيال الطاغية ديمقراطيا جول سيزار يوم 15 مارس عام 44 قبل الميلاد.
فكما ترون لم نخرج من الميتولوجيا الإغريقية غير أن نسختها الرومانية كانت دموية، رغم أن روما عادت لتقاليدها الديمقراطية، لكنها لم تنج من مآلها الاستبدادي والدكتاتوري ولم ينج الإبن القاتل من القتل.

لماذا كان هذا الصراع المحموم حول وزير الداخلية؟
بعد هذه المقدمات الخانقة والمرعبة أريد العودة إلى الواقع. استقبل رئيس الدولة فيما بين الخميس والجمعة كل ممثلي الكتل البرلمانية وتقابل مع رئيس حركة النهضة ومع رئيس الحكومة أيضا، كما تقابل رئيس الحكومة مع رئيس حركة النهضة بعيدا عن العيون وتقابل معاونوه مع عدد من النواب. وتم رفع تحجير السفر على سليم الرياحي على أن تعود له أمواله بعد التصويت. كما تكدست الملفات تهديدا للنواب. واجتمع رئيس حركة النهضة بكتلته وفعل نجل الرئيس الشيء نفسه، باختصار كانت أياما تنبئ بصراع حاسم بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة حول وزير الداخلية يمر أو لا يمر. وفي الحقيقة كان صراعا حول الانتخابات الرئاسية لـ 2019، فالشاهد له طموحات جدية للترشح وللباجي رغبة جامحة أيضا. فكان ولا بد أن يربح واحد منهما بالضربة القاضية أو بالنقاط حسب قوة اللكمة التي وجهها لخصمه.
ومن جهة أخرى يدور صراع خفي بين رئيس الدولة ورئيس حركة النهضة حول 2019 الذي لم يعد يخفي رغبته في ذلك، خاصة وأنه يرى أنه مشروع له ولحركته أن يتوجا مسار انخراطهما في«سياسة التوافق» بمثل هذا التتويج، أخذا بعين الاعتبار أنه لم يعد من حقه الترشح لرئاسة الحركة لذلك كان من مصلحته هزم خصم عنيد بإمكانه أن ينتفض ويقوم من جديد كـ«العفريت».
كان انهزاما مدويا لنداء تونس، الذي عقد ندوة صحفية ليعلن فيها، بعد أن أعطاه رئيس الدولة الضوء الأخضر، للتصويت لفائدة مقترح رئيس الحكومة. مع العلم أن الناطق الرسمي باسم نداء تونس كان قد أعلن عدم التصويت لوزير الداخلية فابتسم الشاهد ابتسامة خفيفة على مثل هذا القول، لأنه يعلم أن الأمور تسير في اتجاه آخر. وسمع الناطق ما يكره من نائب له وزنه في النداء وفي صف رجال الأعمال.
كان انتصارا مدويا لرئيس الحكومة على رئيس الدولة، جسده الشاهد برفع قبضة الانتصار عند الإعلان عن نتائج التصويت وتزاحم الندائيون بصورة خاصة لتهنئته.
وكان انتصارا مدويا أيضا لحركة النهضة عبر عنه رئيس كتلتها الأستاذ البحيري بخطبة عصماء مفعمة بالحماس، أكد فيها على أنهم مفعمون بمفهوم الدولة وثابتون في الدفاع عنها لأنها إذا ما ذهبت ذهبنا وذهبت تونس في مهب الريح. كان خطابا يخبر فيه الناس أنهم آتون اليوم للحكم عن جدارة، من زاوية الدفاع عن الدولة وعن موقعها. إنه يعلن عن انتصار حركة النهضة على النداء وعلى كل القوى الحداثية وعن مشروعية مسكها بدواليب الدولة.

هل يمكن القول أن المعركة قد انتهت وأن أمر 2019 قد حسم؟
إن رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، مسألة تهم الطبقة السائدة في المجتمع، أي البورجوازية، وحتى لما يمرر شخص ما وفي ظروف كهذه المراكز فلا يمكن أن يفعل شيئا وأقصى ما يحصل عليه هي جراية تجعله يعيش عيشة «أهل الحكم». إن الأصل في الأشياء هي المصالح. والمصالح تفرض منطقها، أي مراعاة الكتل الرئيسية وحلفائها في هذه الطبقة. وهي تلك المتواجدة تقليديا على الشريط الساحلي. كما أن موطن القطاعات الرئيسية هو الشريط الساحلي مع تعديل نسبي بالنسبة للنفط والغاز، أما الفسفاط فهو ملك للدولة وداعم للحاكمين. وعلى هذا الأساس فإنه رغم كسب حركة النهضة المعركة في هذا الشوط فإنه يبقى أمامها الأصل وهو الانتماء الطبقي، حيث أنه رغم الثراء الظاهر على قياداتها فإن الدوائر المحددة في مجال الأعمال لا تقبل بها لثرائها أو لقوة حزبها، بل تقبل بها لما تندمج فيها، وهي صيرورة لها مجالها وزمانها. وعلى هذا الأساس يكون ممكنا جدا أن يعود «الشاهد» «للبجبوج» وأن يقبل «البجبوج» بـ «الشاهد» ويبقى هذا القوس سحابة عابرة في العلاقة بينهما وفي التاريخ السياسي للجمهورية الثانية. ورغم دهاء «عمرو بن العاص» صانع انتصار النهضة في هذه المعركة بقفازات ناعمة فإنه نسي «دهاء» المصالح الطبقية والظروف الموضوعية الجيوسياسية التي تفرض منطقة على الجميع والتي لا يمكن اختراقها إلا بقوة جبارة وفي ظروف تاريخية بعينها دون غيرها.
إن الأيام والأسابيع والأشهر القادمة تخبئ في جرابها الكثير من المفاجآت، وأشدها على الحاكمين هي الأوضاع الاجتماعية السائرة في اتجاه التدهور أكثر فأكثر. ومن الطبيعي أن تتغير محاور الصراع من السياسة «الحرفي»، على «الكراسي»، إلى صراع يدور حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، حول التنمية الجهوية للمناطق المحرومة والبطالة والتشغيل والصحة والتعليم والضرائب وانهيار الدينار والتضخم وغلاء المعيشة والجوع والفقر والعطش والماء...الخ. وحينها يمكن لكل المعادلات أن تتغير.

تونس في 3 أوت 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه