هل يمكن لنا أن نتبع طريقا آخر لمعالجة مشاكلنا الاقتصادية غير التي تسير عليها الحكومة؟

سوف نتعرض في هذا الورقة إلى توصيف سريع للوضع الاقتصادي الذي نمر به، وسوف نتعرض، في ورقة ثانية، للمقترحات والحلول الاستعجالية التي نرى أنه بإمكانها أن تمثل مقدمات لتجاوز الأزمة التي نشهدها وللنهوض والتنمية.
نحن أمام نوعان من المشاكل المعيقة للتنمية:
ـ يتعلق الأول بالأسباب المباشرة للأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد، على الأقل، منذ 2011، ونخص بالذكر التضخم وانزلاق الدينار أمام العملات الأجنبية، وانخرام الميزان التجاري، وبصورة خاصة في علاقة بتركيا، وارتفاع المديونية التي تجاوزت حاجز الـ50%  منذ ما لا يقل عن خمس سنوات. توسعت السوق الموازية على حساب السوق الرسمية بحيث تجاوزت نسبتها إلى الناتج الداخلي الخام الـ54% منذ ما يزيد عن الثلاث سنوات. وتفاقم التهريب والتهرب الجبائي. وتراجعت مردودية العمل في الوقت الذي تعاظمت فيه المطلبية في جميع القطاعات. وأصبح إيقاف العمل يحدث بصورة عشوائية وفزضوية، ولا نعني بطبيعة الحال الإضرابات القانونية. لقد أدت فوضى إيقاف العمل إلى إيقاف عملية الإنتاج تماما في بعض القطاعات كما حصل بالنسبة للفوسفاط والمصانع الكيميائية في قابس وصفاقس، جراء توقف حركة القطارات أيضا، وزيادة على ذلك ضعف الإنتاج والإنتاجية.
ـ ويتعلق الثاني بالأسباب الجوهرية التي تعود إلى منوال التنمية االليبيرالي والنيوليبيرالي الذي انتهجته الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي وأثبت فشله، وبالرغم من ذلك أصرت على المضي في منهجها دون فتح حوار وطني يحمل المسؤولية للجميع وعلى أساسه يتحمل الجميع مسؤولياتهم وتبعات خياراتهم. والأنكى أن الأحزاب الحاكمة يجمعها توافق لم يزكيه الناخب بصورة صريحة ولا يعرف عن البرنامج الذي يقوم عليه شيئا، وفي الوقت نفسه ولذر الرماد على الأعين تجري حوارا في ما بينها تسميه "وطنيا" مرَة تنتجه حكومة الفريق الفائز في الانتخابات التشريعية وأخرى "حكومة وحدة وطنية". وتواصل الحكومات سياساتها دون تغيير، تتبع تمشيا مزدوجا، تحاول من ناحية الاستجابة لاملاءات صندوق النقد الدولي بأن تتبع سياسة تقشفية فتقلص من الإنفاق العمومي وتفوت في المؤسسات العمومية وتعوم الدينار وتفتح البلاد للاستثمار الأجنبي بما في ذلك الأرض وتفكك النسيج الصناعي المحلي وتحوله إلى فروع للشركات متعددة الجنسية والعابرة للقارات، معدة للتصدير كليا، وتوجه الاقتصاد وجهة تصديرية، بمعنى أن تجعل من اقتصادنا اقتصاد خدمات. وأمام ضغط الصندوق وضعت في جدول أعمالها الإصلاحات الكبرى، التي تستهدف الإصلاح البنكي بما فيه التفويت في ثلاثة بنوك رابحة، وإصلاح الصناديق الاجتماعية والتأمين على المرض بمزيد إثقال كاهل الشغالين الممولين الأساسيين لخزينة الدولة، ومزيد الاقتطاع من جراية المتقاعدين التي كانوا ائتمنوها لدى طوال سنوات شغلهم، وفي هذا الصدد ليس للدول أي فضل عليهم فيها، ومع ذلك فقد استهدفتهم. واتجهت أيضا إلى إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية دون أن يتوفر بالمقابل بديل في القطاع الخاص أو في اتجاه بعث مشاريع، إلا في ما ندر، فالإجراءات الإدارية مازالت معقدة.
وللضغط على الميزانية اتجهت نحو التقليَص من الإنفاق العام وكأنها تتبع سياسة تقشفية. لكنها، في الوقت نفسه، وتحت ضغط المطلبية الاجتماعية تضطر أن تستجيب للطلب الاستهلاكي فتقترض من أجل ذلك، وكأنها تتبع سياسة توسعية، قائمة على تشجيع الاستهلاك للنهوض بالإنتاج. وهي معادلة خاطئة كان دافع عنها كاينز في أواخر ثلاثينات القرن الماضي وقادت الاقتصاد العالمي في ثلاثية الرخاء. وهو أمر يجعل مساعي الحفاظ على التوازن وتفادي الغرق أمرا غير ممكن، ومن النادر أن نجد من هو واع بخطورة هذا الوضع ويقدم الحلول المعقولة.
(يتبع)
محمد الكيلاني

تونس في28 جويلية 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه