هل يمكن الحديث عن نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس؟

لنبدأ من البداية، الثورة في تونس لم تكن ثورة، بل انتفاضة مضاعفة بانقلاب، لأنها كانت تفتقد للقيادة السياسية ولمشروع بديل للدولة والمجتمع. وكانت القوى المحافظة وبصورة خاصة الحركة الإسلامية بمختلف مكوناتها، بقيادة حركة النهضة، هي الغالبة في الشارع بعد 14 جانفي، رغم أنها لم تكن مشاركة في الحراك الاجتماعي بصورة فعالة. بينما كان اليسار والحركة الديمقراطية في وضع شتات، والأخطر أن جزءا منه كان في تحالف مع حركة النهضة في إطار 18 أكتوبر وتواصل هذا التحالف في اللجنة العليا لحماية الثورة التي جمعت 28 مكوَن سياسي ومدني، بما فيها حركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل وحزب العمال والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وغيرها. ممَا يعني أن ميزان القوى بين القوى المحافظة، دون أن نأخذ بعين الاعتبار تلك المنحدرة من "التجمع"، وبين القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية مختل بدرجة كبيرة لصالح الأولى.
وبما أن الانتقال الديمقراطي هو في الحقيقة والواقع تعبير من تعبيرات علاقة القوة القائمة بين الطرفين، وأن ميزان القوة هذا يتجسد في إطار حراك سياسي واجتماعي محدد وأوضاع اقتصادية وثقافية بعينها في ظل حضور بعينه للدولة، لذلك يبقى الميزان متأرجحا واستقراره إلى جانب هذا الطرف أو ذاك مرتبط بمدى قدرة الطرف الغالب على إدارة الشأن العام وبمدى انحياز الشعب المتحرك إلى جانب هذا الطرف أو ذاك وبمدى "الهيبة" التي عليها الدولة في فرض خياراتها على القوى المتقابلة. ونلاحظ هذا التأرج في منح الناخبين الثقة لحركة النهضة وتفرعاتها والقوى المحالفة معها، لكن الشعب الجمهوري كان إلى جانب القوى الجمهورية، الديمقراطية واليسارية والنواب المنسحبين من المجلس التأسيسي، في اعتصام الرحيل، في المعركة من أجل دستور للجمهورية الثانية ديمقراطي يضمن الحريات والمساواة والعدل الاجتماعي والسيادة الوطنية والسيادة للشعب. ومنح الشعب الناخب ثقته للباجي قايد السبسي، لأنه ركز في حملته الانتخابية على أن ضد النهضة ولن يتحالف معها لتعارض مشروعه بمشروعها، بينما حصل منافسة على أكثر من 40% من الأصوات. ومنح الشعب الناخب ثقته أيضا لنداء تونس، في الانتخابات التشريعية، الذي فاز بالأغلبية النسبية وبالمركز الأول، بينما حصلت حركة النهضة على المركز الثاني بـ68 مقعدا، دون احتساب حلفاءها الأقربين. ولم تتقدم القوى الديمقراطية واليسارية إلا من جهة الجبهة الشعبية التي فازت بـ15 مقعد ولم يحافظ الحزب الجمهوري إلا على مقعد واحد وخسر المسار كل مقاعده. أما الوجوه الموجودة الآن في مجلس النواب والتي كانت محسوبة عليه فقد حصلت على مقاعدها بانضمامها لنداء تونس. وخرج التكتل نهائيا من الحكم ومن قبة المجلس.
وباستقراء كل هذه الأحداث نتبين أن المجتمع التونسي رغم تطوره الحضاري والثقافي والاجتماعي يبقى في الجوهر محافظا. لذلك ورغم مساهمته بقسطه في الإطاحة ببن علي فإنه كان يرفض "المغامرة" فمنح ثقته "للي يخافو ربي" ولرموز النظام القديم الأقل تلوثا، في نظره. ولم يكن إلى جانب نقلة راديكالية في نظام الحكم وقبل بانتقال "ناعم" يجمع بين القديم والجديد الذي يذكره بأمجاد "الفاتحين" الأوائل. وهو ميل يتناسب وما قام به فعلا وما كان مستعدا للقيام به، ويتناسب أيضا وحالة القوى الجمهورية الديمقراطية واليسارية ومدى استعدادها للقيام بعمل تاريخي مستقل.
وباختصار شديد فإن التأرجح الطفيف في ميزان القوى طبع الانتقال الديمقراطي وجعل سيره بطيئا بشكل لم ينجز من المهام الموكولة إليه إلا ما كان ضرورة ملحة وما فرض عليه ميدانيا من قبل الشعب الجمهوري ومن قبل المانحين والمساندين.
محمد الكيلاني

تونس في 18 جويلية 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه