الأزمة السياسية إلى أين...؟

تتكوَن الأزمة السياسية الراهنة من ثلاثة عناصر أساسية:
يتمثل الأول في فساد السياسة جراء صعود الوصوليين إلى الحكم من جميع الفرق والتيارات والطبقات قدموا للشعب والبلاد بمناسبة الانتخابات وعودا لم يلتزموا بها ومارسوا السياحة السياسية داخل مجلس النواب وخارجه. وظهر عليهم الثراء بشكل واضح. وليس هذا فقط بل إنهم استهتروا بالقيم والمبادئ في السياسة وأظهروا للشعب أن السياسة كذب وبهتان وتلاعب ومؤامرات لا تنتهي. وأطنبوا أيضا في الخطاب الشعبوي. حتى أن الشعب تبرَم من السياسة وهجرها وهجر صندوق الاقتراع.
أما العنصر الثاني فهو يكمن في اختلال التوازن السياسي الذي تحقق في اعتصام الرحيل وأنتج دستورا الجمهورية الثانية. غير أن سياسة التوافق التي وضع أسسها رئيس النداء ورئيس حركة النهضة برعاية الدوائر العالمية هي التي فككت النداء وأزاحته من مركز الصدارة الذي احتله بمناسبة الانتخابات التشريعية، وها هي الانتخابات البلدية تعلن سيادة حركة النهضة على الدولة والمجتمع ولم يبق لها سوى شيء من الوقت في إطار التوافق لبسط نفوذها نهائيا. ولقطع هذه الخطوة فقد أطنبت في المناورة والضغط على حلفائها وخصومها على حدَ السواء وعوَلت على حليفها لمنع كل إمكانية لتشكل قوَة مضادة للتحالف المحافظ. فضغطت بكل الوسائل على مكونات جبهة الإنقاذ والتقدم لإيقافها. بينما تعيش مختلف مكونات الحركة الجمهورية، الديمقراطية واليسارية، على وهم الثورة وعلى أنه بإمكانها منفردة أن تكون البديل الديمقراطي الاجتماعي. ولم تقطع بالتالي أي خطوة لتوحيد صفوفها. وكانت الانتخابات البلدية الدليل القاطع على أنها تركت الحكم للمحافظين والمحافظين الجدد. وإذا كانت الانتخابات البلدية قد أفرزت أيضا قائمات مستقلة، اعتبرها الرأي العام بديلا ممكنا عن الأحزاب، وذهب البعض إلى اعتبار أن القائمات المستقلة الشبابية هي البديل الفعلي  عن العقليات والأحزاب والقديمة والقادة الذين عاشوا عصرهم ويريدون أن يعيشوا عصر غيرهم (ولنا عودة).
والجدير بالملاحظة أن بعض القوى الديمقراطية واليسارية التي كانت قد تحالفت مع حركة النهضة ومنها التي كانت قد اتجهت نحو قوى إسلامية أخرى متطرفة تشعل اللهب اليوم ضد حركة النهضة، لأنها تحاول أن تنسينا أنها كانت هي التي عبدت لها الطريق إلى السلطة لمَا تحالفت معها في "حركة 18 أكتوبر" وكونت معها "مجلس حماية الثورة" على إثر رحيل بن علي، وهي التي كونت معها "لجان حماية الثورة" التي تحوَلت إلى "رابطات حماية الثورة" بعد أن طردت النشطاء اليساريين والديمقراطيين منها بالعنف، وهي التي مكنتها من الأداة التي تنصبها على كرسي الحكم، المجلس التأسيسي، في الوقت الذي كانت فيه القوى الجمهورية عاجزة على أن تشكَل القوة المؤتمنة على الجمهورية وعلى الانتقال الديمقراطي. إن هذه القوى تصعد ضد حركة النهضة، تماما كما فعل النداء والسيد الباجي قائد السبسي في الحملة الانتخابية، لتبتز الشعب التونسي المحب للحرية والديمقراطية.
العنصر الثالث، موجود في الحكم، أي في المنظومة الانتخابية التي لا تمكن الناخبين من محاسبة من انتخبوهم، حيث يقدمون لهم برامج ووعودا في الحملات الانتخابية لا يحترمونها ولا يلتزمون بها. لماذا؟ لأن نتائج الانتخابات لا تمكن أي طرف من الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان أو في المجلس البلدي، فيضطر إلى التحالف مع هذا الطرف أو ذاك لتأليف هذه الأغلبية، ممَا يعني أن الطرفين، أو أكثر، يتنازلان عن برنامجهما وتبنيان برنامجا آخر لم يتقدما به إلى الشعب. وهو العنصر الذي يسر لمن يكسب ثقة الناخب أن يتنكر له، الأمر الذي يسرع فساد الأخلاق السياسية، ويجعل السياسي في أعين الناخبين والشعب كاذب ومتقلب و"مخاوز".
أما عن منظومة الحكم فحدث ولا حرج، حيث أن السلطة التنفيذية برأسين: من ناحية أولى، رئيس الدولة المنتخب مباشرة من الشعب له صلاحيات محدودة. لكن قوة العادة والمخزون الثقافي في الحكم  والثقافة الشخصية للحاكم تجعل أن الميل الطبيعي لرئيس الدولة هو أن يكون رئيسا على الصيغة التي يعرفها ويحذقها وأن الشعب لا يفهم رئيسا بصلاحيات محدودة بل يقبل به أن يكون قادرا على التدخل بسرعة في كل شيء. وبهذه الصيغة فالرئيس يحكم ولا يحكم، والشعب لا يفهم شيئا مما تصنعه "الطبقة السياسية".
 ومن جهة ثانية، رئيس الحكومة، الذي يتولى دستوريا مسؤولية التنفيذ، لذلك كلما انتصب واحد في هذا الموقع إلا وأصبح يعمل على أن يمارس صلاحياته كاملة، على عكس الخلفية التي أدت إلى اختياره . الأمر الذي يغضب نجل الرئيس الذي يجد أبواب رئاسة الحكومة موصدة، لأنه يريد أن يتدخل في العديد من الشؤون بصفته مديرا تنفيذيا للحزب الفائز في انتخابات 2014 ، ويغضب رئيس الدولة الذي كان يتصور أن رئيس الحكومة قابل بأن يكون مجرد منفذ لإشارات الرئاسة، وزيادة على ذلك فإن موقعه سمح له بأن يرى أنه بإمكانه الترشح للانتخابات الرئاسية 2019 وتحقيق فوز لا شك فيه. وهو وضع شهدناه تكرر مع الحبيب الصيد والآن مع يوسف الشاهد.
هكذا ومنذ تلك اللحظة بدأ صراع خفي بين الرئاسة ورئاسة الحكومة وصراع مكشوف غير حاد بين رئاسة الحكومة والمدير التنفيذي للنداء. وكلما احتد هذا الصراع تعطلت الشؤون العامة والشؤون الاقتصادية والاجتماعية المعطلة من الأصل. وكلما احتد الصراع احتدت الأزمة إلى درجة أنها أصبحت تهدد الدولة والانتقال الديمقراطي والوضع العام بالبلاد. وتذكروا أنه وضع تكرر مع رئاستي الحكومة.
لقد أصبح الصراع على الحكم علنيا، بين رئاسة الجمهورية وبين رئيس الحكومة الحالي السيد يوسف الشاهد، تماما كما وقع مع رئيس الحكومة السابق السيد الحبيب الصيد. فكلمة رئيس الحكومة التي أدلى بها لوسائل الإعلام، لمَا كان رئيس الدولة في فرنسا، وكلمة رئيس الدولة منذ أيام، تؤكدان أن انتخابات 2019 أصبحت محور هذا الصراع ولا يوجد فيها بند واحد يتعلق بالجمهورية والانتقال الديمقراطي والتنمية والإصلاحات   والشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إلا من زاوية استعمالها ضد الخصم لتبرير الفشل والعجز حاضرا ومستقبلا. وقد أجبر هذا الصراع الرأي العام الديمقراطي والشعبي على أن يعدل ساعته على وتيرته.
 وبالمقبل ماذا يحدث؟ إن المحافظين الجدد هم بصدد المسك بالدولة والمجتمع مدعومين برفاق دربهم المحافظون "العلمانيون" "التوافقيون".  
لذلك فإنني أعتقد أنه ما كان على رئيس الدولة أن يدخل في مثل هذا الصراع وهو الذي ائتمنه الشعب على نفسه وائتمنته الجمهورية على انتقالها الديمقراطي وأن يعيد سيناريو الحبيب الصيد، وهو يعلم جيد العلم النتيجة التي خرجت بها البلاد في تلك الفترة والتي لم تبتعد كثير عن نقطة الصفر. كما أنه يعلم جيدا أن الأزمة انطلقت من النداء وكان عليه أن ينطلق في معالجتها من هناك. كان عليه أن يتدخل لتحسين أدائه وتجاوز عوائقه، وقد يقوم بنفس الشيء مع الأحزاب الأخرى إذا رغبت. أين العيب في ذلك؟ لكن على ما يبدو أن 2019 هي سبب كل مصائبنا، فالسيد الرئيس ينزل بها إلى مستوى ليَ الذراع "ما انبردش على خاطرو" "هو يعرف روحو" وعلى الجميع أن يترقب "ساعة تقديم الترشحات" سيعرف الجميع حينها إذا كنت أود الترشح أم لا؟
 أما بالنسبة للسيد رئيس الحكومة، الذي أراه يقف على أرضية حق ضمنه له الدستور سواء في الحكم أو في الترشح للانتخابات الرئاسية 2019 من عدمه. لكنني أعتقد أنه من حقه، لمَا أدرك أنه لا يملك الـ109 في مجلس النواب، أن يترك البلاد رهينة لطموحه وفي قبضة هذا الصراع على "الكرسي"، وعليه أن ينسحب من رئاسة الحكومة ويكون فريق عمله استعدادا للانتخابات المقبلة، تماما كما فعل ماكرون، رغم أنه لم يكن رئيس حكومة، وأن يجنب البلاد مخاطر لا تحصى ولا تعد ويستعد لحملته الانتخابية. أرجو أن يتذكر طرفا الصراع أن هنالك تونس وشعب تونس.
محمد الكيلاني

تونس في 23 جويلية 2018    

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه