لا للمغالطة فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية متواصلة

يتحدث المسؤولون في الحكم وفي الأحزاب السياسية الحاكمة على أن مؤشرات "إيجابية" بصدد التحقق، وغالبا ما يستهلون إشارتهم المتفائلة بالسياحة وما حققته من تطور، غير أنهم ينسون أنها تستنزف إمكانيات البلاد وتهدر طاقاتها مقابل حفنة من الأوروات أو من الدولارات خاصة أما انزلاق الدينار وارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار المشط، ممَا يجعل كلفة الخدمات تقلص بحدة من هامش الربح بالنسبة لرجال الأعمال وبالتالي من العائدات للدولة. زيادة على ما يتركه القطاع من عملة صعبة في الخارج لإدارة خدماته أو للمصالح الخاصة. مما يعني أن المردود الأساسي للسياحة تبتلعه شركات تنظيم الرحلات التي تتقاضى أجرتها بالعملة الصعبة. كما أن السواح الوافدين علينا من الدول التي لها عملة قوية تضاهي ثلاثة أو أربع مرات أو أكثر عملتنا الوطنية يقضون عطلهم بأثمان زهيدة بالنسبة لهم وثقيلة علينا.
أما بشأن تحسن مؤشرات التصدير فباستثناء المواد الفلاحية يكون من غير المعقول ومن المغالطة احتساب ما تنتجه المؤسسات الأجنبية المنتصبة في بلادنا، من بضاعة معدة للتصدير كليا، في باب الإنتاج الوطني الذي نوجهه للسوق العالمية، باعتباره إنتاجا تابعا للشركات المعولمة متعددة الجنسية والعابرة للقارات التي لا علاقة لها بتونس سوى باستغلال قوة العمل المتوفرة فيها، ونادرا ما تحوَل المواد الأولية الوطنية إلى مواد مصنعة أو نصف مصنعة. ولنكن واقعيين، فمؤسسات الإسمنت التي شكلت نسيجا صناعيا وطنيا بامتياز وقوة اقتصادية دافعة ومصدَر فعال للسوق العالمية، تمَ التفويت فيها للإسبان بصورة أساسية. وعن الفسفاط فحدث ولا حرج، حيث أنه لم يعد يكفل حاجة المصانع الكيميائية بقابس وصفاقس وكدنا نقدم على توريده من المغرب خلال العام الماضي، هذا دون الحديث عن الأسواق التي خسرناها.
وليس هذا فقط بل الحكومة بصدد التفريط في مكسبا الأول، أرضنا، لفائدة الخواص الأثرياء و"الواصلين" في بلادنا والأجانب الذين منحوا حق التملك. كما وقع التفريط في مكسبنا الثاني صناعة النسيج التونسية، التي أصبحت ماركة معروفة عالميا، لفائدة الأتراك.
ومع ذلك يجري الحديث عن تحسن مؤشرات التصدير.
وعن التوريد فحدث ولا حرج، حيث أصبحت وزارة التجارة تورد كل شيء تقريبا من تركيا، بما في ذلك "القلوب" التي دمرت بها فلاحي باجة الذين كانوا ينتجون عباد الشمس، دون الحديث عن بقية القطاعات وعن سياسة التوريد بصورة عامة التي جعلت من الاقتصاد التونسي يضخ مدخراته لاستيراد بضاعة تحمل معها التضخم الحاصل في السوق العالمية وبصورة خاصة في البلدان التي لنا علاقات تقليدية تبادلية، بضاعة كمالية أو استهلاكية غير حيوية، الشيء الذي يجعل كاهل اقتصادنا مثقل بأثقال كان من واجب الحكومة تحريره منه.   
ومع ذلك يتحدثون عن تحسن الميزان التجاري.
كيف يمكن للمؤشرات الاقتصادية أن تتحسن والمديونية قد تجاوزت حاجز الـ50%  منذ ثلاث سنوات على الأقل؟ كيف يمكن للمؤشرات الاقتصادية أن تتحسن ونحن نقترض إلى الآن للاستهلاك؟ كيف يمكن للمؤشرات الاقتصادية أن تتحسن ومناخ الأعمال ضعيف إلى درجة يجبر المستثمر المحلي أو الأجنبي على مغادرة البلاد في محاولاته الأولى للتفكير في بعث مشروع في بلادنا، حتى أن كل من يقدم على ذلك يعتبرها مغامرة؟ كيف يمكن للمؤشرات الاقتصادية أن تتحسن والفساد "يضر يصرع" والسوق الموازية سيدة الموقف، فليمر واحد منكم بشارع فرنسا، وفي غيره من الشوارع الربطة بمحطات النقل لخارج البلاد سوف يسمع..."صرف.. صرف.. صرف.." غير بعيد عن الدوريات الأمنية ورجال الأمن؟ كيف يمكن للمؤشرات الاقتصادية أن تتحسن وثقافة "تدبير الراس" قد عوضت ثقافة العمل، حتى أن إدارتنا تعمل بأقل من 10% من طاقتها وأن مصانعنا القليلة ومؤسساتنا وضيعاتنا الفلاحية لم تتجاوز طاقة اشتغالها الـ30% في أحسن الحالات؟
لنبدأ بما ينبغي البدء به ألا وهو معالجة هذه المعضلات وكبس الأحزمة هاهنا. أما أن تتوجه الحكومة إلى الحديث عن الإصلاحات الكبرى التي أملاها صندوق النقد الدولي والتي سارت في تنفيذها العديد من البلدان مثل إسبانيا والبرتغال واليونان والعديد من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى وكانت النتيجة مؤلمة والكلفة الاقتصادية والاجتماعية باهظة، أدت بأغلبها إلى أزمات مازالت تعاني من تبعاتها إلى اليوم ومنها من لم يقدر على الخروج منها.
كفى مغالطة، ولنحتكم إلى الواقع ونسترشد بالتاريخ ونتعظ. ولنحمي وطننا وشعبنا من المخاطر المحدقة بنا. ولنحافظ في سيرنا على الوجهة التي سار عليها آباء التحديث وآباء الجمهورية ونثريها بجديدنا وبروح عصرنا.
محمد الكيلاني

 تونس في 20 جويلية 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه