بين التسامح والتعصب "شعرة"

وجدت نفسي هذه الأيام أواجه مواقف صعب عليَ الحسم فيها بين الخطأ والصواب والفصل بين الخيط الأبيض والخيط الأسود لدقة التفاصيل وضيق المسافات بين الفوارق، فاضطررت إلى اتخاذ مجالات أرحب يمكنني الحصول فيها على تعريفات ومصطلحات أدق وأقبل بالتالي بتسامح أشمل في التعامل والأحكام والخروج بنتائج منطقية وأكثر واقعية ميسرة لحياة الناس وموفرة لضمانات أكبر لاندماج الجماعات في كل واحد موحَد. وقد يذهب إلى ظن بعض من الرفاق والأصدقاء أنني بصدد الحديث عن موضوعات هلامية وافتراضية. أبدا. وأبدأ. تعرضت في المدة الأخيرة صديقتي النائبة ورئيسة لجنة الحريات الأستاذة بشرى بالحاج حميدة إلى حملة تشويه فاضحة ووصل الأمر ببعض الغلاة إلى إهدار دمها، لا لشيء إلا لأنها تعرضت في التقرير الذي رفعته لرئيس الدولة "لمحرمات"، من وجهة نظرهم، ما كان عليها أن تتجرأ "على ما فيه نص صريح" و"على ما هو منكر وما حرَمه شرع الله". وذنب الأستاذة بشرى أنها تعرَضت لنقاط الضعف في قوانيننا التي من المفروض فيها أن تتبع النسق الذي تمَت في إطاره صياغة دستور الجمهورية الثانية الضامن للحريات الفردية والعامة والحامي لها، وتقدمت بمقترحات كي ترتقي تشريعاتنا إلى مستوى الدستور وحقوق الإنسان الكونية. فهبت عليها طيور أبابيل ترميها بحجارة من سجيل، تكفرها وتلعنها وتهددها في حرمتها الجسدية وفي حياتها. ويتستر هؤلاء بالدفاع عن الدين. وفي سياق هذه الحمى تعرض الوجه البارز في حركة النهضة السيد لطفي زيتون إلى نيران صديقة ذنبه الوحيد أنه وقف إلى جانب الحق الطبيعي للإنسان وإلى جانب حق الأستاذة بشرى في أن تقترح ما تراه صالحا لدعم الحريات الفردية وحقوق الإنسان الكونية. ولا يمكن لنا أن خطورة ما هو بصدد الحدوث هذه الأيام إذا لم نحسن التفريق بين المجالات، إذا لم نفهم ولم نقبل بأن يكون مجال العقائد وحرية الضمير والحريات الفردية هو المجال الخاص المتعلق بالإنسان الفرد بينما يكون مجال الحريات العامة والعمل السياسي والمدني والثقافي والعسكري والرياضي والاقتصادي وغيره هو المجال الموضوعي مجال إدارة الشأن العام. إن وضع خط الفصل ها هنا تمييزا بين المجالات من شأنه يحد من التعصب ويدفع إلى التسامح إلى القبول بالآخر واحترام حريته وحمايتها من كل تعدَ، لأنها تجرَد الإنسان الفرد من "الحق الإله" الذي يمنحه لنفسه كي يتدخل في ضمائر الناس، وبذلك تتوسع مجالات الحريات الفردية. إن تغيير المجالات والتصرف فيها حسب الهوى الأيديولوجي أو العقائدي هو الذي يفتح الأبواب على مصراعيها للتعصب والتطرف والتعدي على الحريات الفردية والعامة، اليوم باسم الأفراد والجماعات وغدا باسم الدولة، اليوم باسم النص القرآني وباسم الشريعة وغدا باسم الدولة الإسلامية وباسم الخلافة، قد تكون السادسة أو تحت أي رقم آخر. وفي هذا الإطار بالذات أسوق بعض الكلمات لمن ساءهم أن نساء تونسيات أدين اليمين وهن سافرات، حيث ذهب الأمر بالبعض إلى حد القول لماذا يؤدين اليمين إذن؟ إنهن يؤدين اليمين سافرات لأنهن تحررن من منطق أنهن عورات واعتبرن أنفسهن ذوات إنسانية كاملة تماما كما الرجل. ولأنني مؤمن حتى النخاع بحريتهن أساندهن في ما أقدمن عليه وجرأن عليه، خاصة وأن الإجراء هو مجرد تقليد "أركيو" ورثناه بقاياه من عصور الظلام، لمَا كانت المرأة لا تخرج من المنزل إلا مرتين واحد للزواج والثانية للقبر. وابحثوا في التراث النيَر والظلامي ما شئتم واعثروا على إشارة لهذا الموضوع. لأن الظروف الاجتماعية والثقافية والحضارية، بكل بساطة، لم تكن تسمح لها بمثل هذا "التبرج" الحداثي الذي سمح لها بأن تصبح مسؤولة وتؤدي اليمين مثلها مثل الرجل. لذلك فإن الإجراءات أو الترتيبات الخاصة بأداء اليمين بالنسبة للمرأة لن تكون سوى تأويلات و"اجتهادات" خاصة بهذه الجماعة أو تلك أو بالمستوى العام الذي بلغه المجتمع في سياق تطوره الحضاري ورقيَه وتحرره. وعلى هذا الأساس لن أولي أهمية للذين لم يعدلوا ساعاتهم على ساعة التاريخ.
وختاما، مساندتي التامة للأستاذة والنائبة بشرى بالحاج حميدة، ومساندتي التامة للنساء اللاتي ارتأين أداء القسم سافرات.
تونس في 1 جويلية 2018
محمد الكيلاني

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية

الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد صياغة المشهد السياسي وتسلم السلطة للحركة الإسلامية، الحل في الجبهة الجمهورية المتحدة

13 أوت هذا العام: نمطان من المجتمع وجها لوجه